في الثالث عشر من مايو/أيار الجاري عُقدت قمة الولايات المتحدة ودول الشمال الأوروبية الخمس، السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وأيسلندا، في البيت الأبيض لمناقشة قضايا عدة، منها الوضع الأمني المعقد في البلطيق. وهي قمة غير اعتيادية ومن النادر أن تتم دعوة العديد من دول شمال أوروبا لزيارة رسمية مشتركة إلى واشنطن. تحمل القمة في طياتها مجموعة من الدلالات، لعل أبرزها رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على مكانتها ودورها في القارة الأوروبية، في مواجهة ما تعتبره تمدداً للنفوذ الروسي، وما يمثله ذلك من تهديد لها، خاصة في وقت يسود فيه الجدل الأوساط الأوروبية بين مؤيد ومعارض لاستمرار النهج المتشدد الذي تتزعمه واشنطن تجاه روسيا. فالدور الأمريكي في القارة الأوروبية قام على دعامتين أساسيتين، المساعدات المالية من خلال مشروع مارشال التي تحولت إلى تجارة واستثمارات في فترة لاحقة، من ناحية، وحاجة أوروبا للمظلة الأمنية الأمريكية المتمثلة في حلف شمال الأطلسي لمواجهة التهديد الشيوعي، ثم الإرهاب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من ناحية أخرى. وتواجه ركائز الدور الأمريكي في أوروبا تحدياً واضحاً في السنوات الأخيرة، حيث لم تعد واشنطن قادرة على تقديم الدعم المالي لدورها الاقتصادي والأمني كما في الماضي، واتجهت الإدارة الأمريكية إلى تقليص ميزانيتها العسكرية، ودعت شركاءها الأوروبيين إلى زيادة إنفاقهم العسكري بنسبة لا تقل عن 2% من الدخل القومي، في وقت يمر الاتحاد الأوروبي بأزمات مالية وأمنية مثلت ضربات موجعة للكيان الوحدوي الأوروبي، في مقدمتها تصاعد الهجمات الإرهابية وأزمة تدفق اللاجئين، وتعالت أصوات عدة داخله ترفض السياسات الأوروبية المشتركة في المجالين الأمني والاقتصادي، وتدعو لاستقلالية أكبر عن الاتحاد، وقد اتسع نطاق هذه الأصوات لتشمل دولاً قائدة وكبرى في الاتحاد مثل بريطانيا. تزامن ذلك مع استعادة روسيا لدورها الدولي والإقليمي وما ارتبط بذلك من عرقلة الخطط الأمريكية في أوكرانيا وسوريا وغيرهما، الأمر الذي جعل من وقف التمدد الروسي عامة، وفي الجوار الأوروبي خاصة، ضرورة وليس خياراً أمريكياً من وجهة نظر واشنطن، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات التي تستند إلى الترويج للهاجس الأمني من التهديد الروسي بهدف تعزيز مواقعها في أوروبا، وتتضمن ضم أعضاء جدد لحلف شمال الأطلسي، والوقوف بالحلف على الحدود الروسية، وتكثيف الوجود العسكري للحلف في شرق أوروبا، واستكمال مشروع الدرع الأمريكية المضادة للصواريخ، رغم وعد أوباما في مستهل فترة رئاسته الأولى بإعادة النظر في هذا المشروع، حيث بدأ في 12 مايو الجاري تشغيل نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في موقع ديفيسيلو جنوب رومانيا، الذي بلغت تكلفة بنائه نحو 800 مليون دولار، ويضم صواريخ اعتراضية من طراز إس إم 3، وسيصبح رسمياً جزءاً من درع الدفاع الصاروخي لحلف شمال الأطلسي خلال قمة وارسو في يوليو/تموز القادم. وتبرز في هذا السياق أهمية دول الشمال الأوروبي، فمن ناحية تحتضن هذه الدول بحر البلطيق ذي الأهمية الاستراتيجية لروسيا، وحيث تقوم الأخيرة بتعزيز دفاعتها العسكرية وتكثيف تدريبات قواتها، هذا فضلاً عن مشروع روسيا العملاق السيل الشمالي 2 لنقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق، دون المرور بدول جوار كأوكرانيا. يضاف إلى هذا، أن دول الشمال، إلى جانب روسيا والولايات المتحدة وكندا، هي المعنية بالقطب الشمالي الذي يحتوي على نحو خمس الاحتياطي العالمي غير المكتشف من النفط والغاز، وتقوم روسيا ببرنامج طموح لإعادة تأهيل قواعدها العسكرية في المناطق الشمالية، كما تواصل الشركات الروسية تطويرها لحقول النفط والغاز في المياه الإقليمية لروسيا في القطب الشمالي، رغم تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية. وفي بحر البلطيق حدث الاحتكاك بين طائرات حربية روسية ومدمرة أمريكية الشهر الماضي، اعتبرته واشنطن أحد أكثر التصرفات عدائية من جانب موسكو، في حين اعتبرت الأخيرة أن سلوك طياريها جاء وفق القواعد الدولية، وأنهم كانوا بالقرب من كالينينغراد الروسية. وقد كان النشاط الروسي الاقتصادي والعسكري في المناطق القطبية في صلب اهتمام القمة، وانعكس ذلك في تصريحات الرئيس الأمريكي أوباما وزعماء الشمال في ختام القمة، حيث ندد أوباما بالموقف العسكري الروسي العدائي في منطقة البلطيق، داعياً موسكو إلى احترام التزاماتها الدولية، ومعتبراً أن الموضوع الرئيسي للقمة يتعلق بسبل ردع العدوان الروسي المستقبلي، واستعداد البيت الأبيض لدعم حلفائه في شمال أوروبا وتهدئة قلقهم الذي نشأ بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014. وأشارت رئيسة وزراء النرويج، إرنا سولبيرج، إلى زيادة القوة العسكرية الروسية مقارنة مع ما كانت عليه قبل 10 إلى 15 عاماً مضت، ولكنها لا ترى أية تهديدات لبلادها من روسيا، رغم ذلك، مؤكدة وجود تعاون مشترك بين البلدين. وأعلنت الدول الست أن حلف شمال الأطلسي يلعب دوراً مركزياً في أمن أوروبا، رغم أن دولتين منها خارج الحلف، هما السويد وفنلندا، وتسعى واشنطن لضم فنلندا، التي تمتد حدودها مع روسيا لأكثر من 1300 كم، إلى الحلف، بينما نصحت روسيا جاراتها الشمالية بعدم الإقدام على هذه الخطوة. كما كان تمديد العقوبات المفروضة على روسيا من جانب واشنطن وبروكسل على خلفية الأزمة الأوكرانية من القضايا الرئيسية التي تناولتها القمة. وأكد أوباما أنه وزعماء دول الشمال متفقون على ضرورة إبقاء العقوبات المفروضة على روسيا، يأتي ذلك قبيل عقد الاتحاد الأوروبي في نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل قمة دورية يناقش خلالها مسألة تمديد العقوبات المفروضة على روسيا. وكان بعض قادة الدول الأعضاء في الاتحاد رأوا أن هذه العقوبات لم تحقق النتائج المرجوة، وأنها تؤثر سلبا في الاقتصاد الأوروبي، ودعوا إلى إلغائها أو تخفيفها، وصوت البرلمان الفرنسي لمصلحة قرار يدعو الحكومة الفرنسية إلى عدم الموافقة على تمديدها. إن الشمال الأوروبي الذي احتفظ بهدوئه بعيداً عن خطوط المواجهة الملتهبة بين واشنطن وموسكو زمن الحرب الباردة، لم يعد بمنأى عن التوترات الأمريكية الروسية التي تصاعدت منذ بدء الأزمة الأوكرانية نهاية عام 2013، ولم تنجح التفاهمات التكتيكية المحدودة بين الطرفين بشأن سوريا في تجاوز الخلافات الاستراتيجية العميقة بينهما في أوروبا. وتظل روسيا جزءاً من هذا الشمال، وجاراً مباشراً لدوله، وترتبط مع الأخيرة بمصالح عدة ومتزايدة، ما يبقي على التساؤل بشأن مدى قدرة واشنطن على عزل وتطويق روسيا في القارة الأوروبية التي تمثل الأراضي الروسية 40% من مساحتها. استاذة العلوم السياسية (جامعة القاهرة)