ليست أمماً بَعد ولم تصبح إمبراطوريات، ولكنها عملاقة، والناظر إلى مؤشراتها يشعر بالدوار. فعدد مستخدمي فايسبوك فاق 1.5 بليون مستخدم، والهواتف الذكية «الأندرويدية» أكثر من بليون مستخدم، شأن عدد مستخدمي «جيميل». وحجم أعمال آبل يضاهي الناتج المحلي اليوناني... وهذه الشركات ترسم وجه العالم الرقمي، ولكنها ليست شركات رأسمالية عملاقة فحسب. فهي تحمل رؤية إلى العالم ويوتوبيا تغير فهمنا الحياة اليومية. ونواة هذه الإيديولوجيا هي شبكة الإنترنت، وهذه محرك التغيير والغاية الأسمى في آن. ومنذ أعوام، تدور خطابات هذه الشركات على اليوتوبيا (عالم المثل) الخاصة بها. ولا يستخف بهذه الخطابات، فهي تستند إلى أسس قد تفلح في تحقيق الرؤية هذه. «عملنا اليوم بالغ الأهمية على نحو لم يكن عليه يوماً»، أعلن مارك زوكربيرغ في منتصف الشهر المنصرم حين أماط اللثام عن «F8»، وكرر أكثر من مرة على مسمع الحاضرين عبارة «برينغ بيبول توغذر» (لجمع الناس والتقريب بينهم). وتتوالى إعلانات نوايا هذه الشركات الضخمة، وتتناسل. ومنها الدعوة إلى «منح كل شخص صوتاً، وتأييد حرية الأفكار ورفع القيود عن انتقالها من ثقافة إلى أخرى ومن بلد إلى أخر». ويسلط زوكربيرغ الضوء على سلطان الاتصال بالشبكة، فيعرض نماذج النجاح والسبيل إليه طبعاً هو الاتصال بالشبكة العنكبوتية الإلكترونية، ومنها نموذج الوالدة في الهند التي ستؤمن الغذاء لعائلتها (بواسطة الاتصال بالشبكة)، والوالد الأميركي الذي سيكافح الاحترار الحراري، وفتاة من سيراليون ستجد سبيلاً إلى علاج. وختم زوكربيرغ بالقول:» عوض تشييد الجدران، يسعنا مساعدة عدد أكبر من الناس ومد الجسور بينهم. وعوض التفريق بينهم، يسعنا الجمع بينهم. وهذا ما نفعله يوماً بعد يوم، (ومن طريق) الابتكار تلو الابتكار. وفي شباط (فبراير) المنصرم، خلص مدير «ألفابيت»، شركة غوغل الأم، إلى أن «الإنترنت غيّر طريقة التعليم، وطريقة عملنا وعيشنا... فحين تكون المعرفة في متناول جميع الناس، تعتقهم من القيود وتساهم في إرساء الديموقراطية». ويرى أوليفييه إرتزشيد، أستاذ المحاضرات في علوم المعلوماتية ومدون على موقع «affordance.info» أن وراء عودة مديري الشركات الرقمية إلى إبداء الحماسة «اليوتوبية» هو الحاجة إلى إرساء خطاب تكنولوجي يجبه الخطاب المندّد (بهذه الشركات) وأصحابه من أمثال المفكر يوجيني موروزوف. ويُعد هذا الخطاب الناس لقبول طموحات هذه الشركات في قطاعات الرعاية التي تتولاها في الغالب الدول، مثل النقل والصحة والتعليم. فالشركات الرقمية تسعى إلى التربع محل الدولة والقيام بدورها على وجه أمثل. وجسر الشركات الرقمية إلى الحلول محل الدولة هو جعل الاتصال بالشبكة في متناول الناس كلهم وكأنه حق جامع وعام. ونهج الشركات هذه تبشيري يرمي إلى تنوير الناس الجاهلين بمعجزات العالم الرقمي. وثمة 4 بلايين نسمة على وجه المعمورة غير متصلين بالشبكة. ويقسم زوكربيرغ البلايين هؤلاء إلى 3 فئات أو شرائح: بليون من هؤلاء لا يملك الاتصال بالشبكة، وبليون يرى أن كلفة النت باهظة الثمن، وبليونا نسمة لا يدركون الفائدة المرجوّة من الشبكة. ويبدو أن عمالقة النت لن تنتظر مشغّلي شبكات الهاتف والاتصال، وستبادر فايسبوك وغوغل إلى وصل هؤلاء بالشبكة من طريق إطلاق مشاريع مثل «إنترنت.أورغ» الفايسبوكي الذي يوفر اتصالاً مجانياً بعدد من الخدمات على الخط، وتجهيز «ألفابيت» 400 محطة هندية بإنترنت غير سلكي، و»واي فاي»، عالي السرعة. والمرحلة المقبلة من المشروع هذا أخاذة: نشر الإنترنت في مناطق نائية بواسطة طائرة درون تعمل بالطاقة الشمسية وعرضها يضاهي عرض طائرة البوينغ 767. وهذه الطائرة قادرة على البقاء في الأجواء ثلاثة أشهر وينتشر مدى الإنترنت الذي توفره على نطاق 80 كلم. وتعوّل «ألفابيت» على مناطيد هيليوم تبلغ الغلاف الجوي لبث الإنترنت في مثل هذه المناطق، وهي أبرمت شراكة مع سريلانكا لـ «نثر» الإنترنت فوق أراضيها النائية. ومثل هذه المشاريع حيوية. فشركات الإنترنت العملاقة لا يسعها النمو من غير التوسع وايقاع بليون مستخدم وطفل في شباكها. * صحافي، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 14-15/5/2016، إعداد م. ن.