خصوصية التجربة السياسية المصرية الحديثة التي انطلقت مع تحسس المصريين السبيل إلى التعددية الحزبية والانتخابات التنافسية مع مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، اقتضت أن يبقى العقل السياسي المصري، خصوصاً في أوساط النواب المستقلين وممثلي الأحزاب السياسية الصغيرة في البرلمان، أسيراً للخوف المرضي من هاجس هيمنة الحزب الأوحد. ولم يكن بوسع الحراك الثوري الذي شهدته البلاد في 2011 و2013، أن يحول دون ظهور إشارات في الأفق السياسي المصري تنذر باحتمالات إعادة إنتاج التجربة المقيتة، التي ألقت بظلالها على الحياة السياسية المصرية طيلة عقود خلت، والمتمثلة في هيمنة حزب وحيد على البرلمان ومجمل المشهد السياسي، سواء كان حزب الوفد في مرحلة ما قبل ثورة تموز (يوليو) 1952، أو هيئة التحرير والاتحادين القومي ثم الاشتراكي لاحقاً، ومن بعد ذلك الحزب الوطني الديموقراطي منذ العام 1978 وحتى اندلاع ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، ثم حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، قبل انطلاق الموجة الثورية التصحيحية في 30 حزيران (يونيو) 2013، وصولاً إلى «ائتلاف دعم الدولة المصرية» هذه الأيام. فمنذ أن أبصر النور قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سعى «ائتلاف دعم الدولة»، الذي كان يقوده النائب سامح سيف اليزل، ويضم 250 عضواً، إلى توسيع دائرة كتلته البرلمانية، المكونة من أحزاب سياسية عدة مثل «الوفد»، و «المصريين الأحرار»، و «مستقبل وطن»، توطئة لتشكيل تحالف نيابي عريض يمثل بدوره ظهيراً سياسياً داعماً للسلطة الحالية من داخل البرلمان. وبمجرد إعلان نتائج تلك الانتخابات وبعد التئام مجلس النواب الجديد مباشرة، لم يتورع الائتلاف عن استقطاب نواب مستقلين وحزبيين للانضواء تحت لوائه، بما يخالف المادة السادسة من قانون مجلس النواب، والتي تنص على أن «يُشترط لاستمرار العضوية بمجلس النواب أن يظل العضو محتفظاً بالصفة التي تم انتخابه على أساسها، فإن فقد هذه الصفة أو غيّر انتماءه الحزبي المنتخب على أساسه أو أصبح مستقلاً أو صار المستقل حزبياً، تسقط عنه العضوية بقرار من مجلس النواب بغالبية ثلثي أعضاء المجلس». وخلال مناقشة مشروع اللائحة الداخلية الجديدة لمجلس النواب، والمكون من 440 مادة، مطلع شهر آذار (مارس) المنقضي، توالت الاتهامات لائتلاف «دعم الدولة» بالهيمنة على البرلمان، على نحو ما ظهر جلياً إبان التصويت على المادة 21 منها والخاصة بسفر الوفود البرلمانية إلى الخارج، والتي احتج نواب كثر على ما اعتبروه تدخلاً من الائتلاف للحيلولة دون أية تعديلات عليها، فضلاً عن ما لمسه بعض النواب من معاملة رئيس البرلمان التفضيلية لنواب ذلك الائتلاف تحت القبة. وأثناء تعديل المادة ٢٤ من اللائحة والخاصة بتشكيل اللجنة العامة ليتم تمثيل المستقلين فيها، والذين يبلغ عددهم ٣٥٠ نائباً بما يفوق إجمالي تعداد النواب الحزبيين، بخمسة نواب فقط، الأمر الذي أوجد لدى النواب المستقلين، رجالاً ونساءً، شعوراً بالغبن من قبل رئيس المجلس و»ائتلاف دعم الدولة»، خصوصاً بعد حذف جزء من مادة باللائحة يختص بضرورة تمثيل النائبات تمثيلاً ملائماً داخل اللجان النوعية في المجلس، في الوقت الذي يبلغ تعدادهن 89 نائبة بما يفوق حجم أي تكتل حزبي ممثل في البرلمان. ومن بين 16 حزباً سياسياً في البرلمان الحالي، وهو رقم غير مسبوق من الأحزاب ربما لم تشهده الحياة البرلمانية المصرية من قبل، يعاني أكثر من ستة أحزاب يمكن وصفها بالصغيرة من حيث تعداد نوابها البرلمانيين، ما يعتبرونه، تهميشاً وإقصاءً متعمّداً من جانب رئيس المجلس و»ائتلاف دعم الدولة». ففي خطوة وصفتها تلك الأحزاب بالمقوضة للعمل الحزبي والبرلماني، وافق المجلس على تعديل المادة الخاصة بتشكيل الهيئات البرلمانية للأحزاب، بعد زيادة عدد نواب الحزب إلى عشرة نواب كشرط لتشكيل الهيئة بعدما كان يقتصر على نائبين فقط في اللائحة القديمة، الأمر الذي سيحرم عدداً من الأحزاب الممثلة في البرلمان دون العشرة مقاعد من تشكيل هيئات برلمانية أو حتى التمثيل داخل اللجنة العامة للمجلس. وفي أعقاب عرض الحكومة لبيانها أمام البرلمان قبل نهاية الشهر الفائت، ومع شروع رئيسه في تشكيل اللجنة الخاصة المعنية بدراسة البيان توطئة للرد عليه في غضون ثلاثين يوماً، يحق لأعضائها خلالها إبداء المقترحات على تفاصيل البيان وإدخال تعديلات على بنوده سواء بالحذف أو الإضافة قبل موافقة 50 في المئة من أعضاء البرلمان، بواقع 298 عضواً، على منح الثقة للحكومة، انتقد عدد من النواب عملية تشكيل رئيس البرلمان لتلك اللجنة، التي تضم 50 عضواً ويرأسها وكيل البرلمان، زاعمين أنها افتقدت إلى المعايير الدستورية والموضوعية للاختيار، حيث سعى رئيس مجلس النواب لفرض أسماء بعينها، من دون الأخذ في الاعتبار غالبية النواب المستقلين أو الأحزاب الصغيرة داخل البرلمان. ففيما ضمت اللجنة 16 عضواً هم رؤساء الهيئات البرلمانية للأحزاب الممثلة في البرلمان، إضافة إلى 33 عضواً آخرين من المستقلين، كانت غالبيتهم من المنضوين تحت لواء تحالف «دعم الدولة». وتحت وطأة الانتقادات الحادة، اضطر رئيس مجلس النواب إلى تنويع وتوسيع تشكيلة اللجنة، عبر دعوة النواب الراغبين في الانضمام إليها لتسجيل أسمائهم بالأمانة العامة للمجلس. في ضوء ذلك، رأى برلمانيون أن طريقة تشكيل اللجنة، والتي أجريت من دون إعلان للمعايير التي تم الاختيار على أساسها، تتعارض مع الواقع الحقيقي لتركيبة المجلس، ومن ثم، جاء تشكيل اللجنة استمراراً لنهج إدارة لا تلتزم بأية معايير موضوعية، مثلما حدث عند اختيار هيئة مكتب البرلمان للجان الداخلية السابقة، وأعضاء الوفود البرلمانية التي تسافر إلى الخارج. كما أبدى نواب آخرون استياءهم من احتكار مجموعة «دعم الدولة» التي سيطرت على تشكيل لجنة دراسة البيان الحكومي بهدف تمريره من دون معارضة، للمشاركة في أية مؤتمرات في الخارج، وتمثيل البرلمان في المحافل الدولية، وسط تجاهل تام للنواب المستقلين والذين يمثلون الغالبية العظمى من أعضاء المجلس. وتفاقمت الهواجس من هيمنة «ائتلاف دعم الدولة» على المشهد السياسي المصري بعد تموز 2013، مع تفجر الجدل خلال الآونة الأخيرة، داخل الأوساط السياسية والإعلامية، حول نية الائتلاف التحول إلى حزب سياسي داعم للرئيس السيسي، تماشياً مع دعوة الكاتب الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل إياه، قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لتأسيس «حزب الرئيس» ليكون نصيراً له في مشروعه السياسي والتنموي. وبالتوازي، عكف الائتلاف على إطلاق عملية التحضير لخوض الانتخابات البلدية المتوقع إجراؤها خلال الربع الأول من العام المقبل، متوخياً الاستئثار بغالبية مقاعد المجالس المحلية. فعلى رغم إعلانه إرجاء تدشين استراتيجيته الانتخابية الخاصة بالانتخابات البلدية المرتقبة حتى الانتهاء من إقرار اللائحة الداخلية للبرلمان وإجراء انتخابات لجانه النوعية، لم يتوان الائتلاف عن الإعداد لذلك الاستحقاق البلدي فور انتهاء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، من خلال الشروع في تجهيز القوائم الانتخابية عبر تشكيل لجنة خاصة تتولى اختيار العناصر الشابة المتميزة على مستوى الجمهورية. وعلى غرار غالبية تجارب الحزب الأوحد المهيمن، بدأ «ائتلاف دعم الدولة» يجنح نحو الوقوع في براثن انحسار الممارسة الديموقراطية داخله، إذ سادت حالة من الغضب بين أعضائه جراء ما وصفوه بالصلاحيات المُطلقة التي منحتها لرئيس الائتلاف وثيقة نظامه الأساسي المقدمة إلى رئيس مجلس النواب لإشهار الائتلاف رسمياً فور إعلان العمل بلائحة المجلس الجديدة بعد إقرارها قبل أيام بموافقة 403 أعضاء، وإحالتها إلى الرئيس السيسي لإصدارها بقانون. فبخلاف ما تم الاتفاق عليه مسبقاً بتلك الوثيقة التي كانت تتضمن 14 بنداً، أقرت غالبية الأعضاء بمقتضاها تقليص صلاحيات رئيس الائتلاف بعدما وزعت المهام على أكثر من شخص بدلاً من احتكارها في قبضة شخص واحد، فوجئ أعضاء الائتلاف بتعديل خمسة بنود في الوثيقة الجديدة على نحو يخول رئيسه صلاحيات موسعة ومطلقة، من بينها إدارة الشؤون المالية، واستبعاد أي عضو من الائتلاف، علاوة على اختيار الأمين العام وأربعة نواب لرئيس الائتلاف، إضافة إلى المتحدث الرسمي باسم الائتلاف. وهى الأمور التي كانت المسودة الأولى من الوثيقة قد نصت على أن تتم بالانتخاب الحر. كذلك، اعتبرت الوثيقة الجديدة صوت رئيس الائتلاف هو المرجح لحسم القضايا التي تتساوى عند الاقتراع عليها أصوات أعضاء المكتب السياسي، الذي يضم نحو 20 عضواً، بينهم 7 ممثلين عن الأحزاب السياسية المشاركة بالائتلاف، وهو الأمر الذي دفع بنحو 160 عضواً بالائتلاف إلى إعلان استيائهم من ذلك التضخم الفج في صلاحيات رئيسه، إلى الحد الذي من شأنه أن يقود، من وجهة نظرهم، إلى صناعة ديكتاتور. يبدو أن الزلزال الثوري المدوي الذي عصف بمصر وعدد من دول المنطقة قبل سنوات، فيما لا تزال توابعه وتداعياته القوية تقض مضاجع شعوبها حتى يومنا هذا، لم يكن كفيلاً بإبراء مصريين كثر من الأسقام السياسية التي ضربت أطنابها بأجساد العباد والبلاد طيلة أحقاب ممتدة سبقت ثورة يناير 2011، أو تحصينهم عدواها، فإذا بهم اليوم يهرعون لاستدعائها ويستسلمون لشهوة إعادة اجترارها، على نحو ما بدا جلياً في ظهور أعراض نزوع مرضي جارف من قبل فعاليات سياسية وفكرية لتأميم السياسة واحتكار السلطة، عبر تفريغ الدستور من مضمونه، وشخصنة المؤسسات، وإعادة إنتاج الفرعونية السياسية، وتكريس الهيمنة المطلقة لحزب وحيد، يباشر من دون سواه، مسيرة العزف الاستبدادي المنفرد على المسرح السياسي. * كاتب مصري