بدأ في الثالث والعشرين من شهر مايو 2016 في مدينة اسطنبول التركية أعمال أول مؤتمر قمة عالمي للعمل الإنساني. ويأتي انعقاده من أجل اتخاذ الإجراءات المناسبة لإنهاء معاناة ملايين البشر المتأثرين بالنزاعات والكوارث. وفي عالم غَدَا أكثر هشاشة وأقل استعدادًا للتكيف مع الصدمات المتعددة التي تتسبب فيها ظواهر الأزمات المالية والكوارث الطبيعية والتطرف العنيف العابرة للحدود القومية، فإن الفجوة بين الاحتياجات الإنسانية والموارد المتاحة هي من دون شك آخذة في الاتساع. وهي، بذلك، تؤكد الحاجة الملحة للنظر في كيفية الاستجابة المثلى على المستوى العالمي لهذه الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات والفئات المتضررة. وستمثل هذه القمة فرصة لقادة الحكومات والمنظمات والدول المتضررة بالأزمات والقطاع الخاص والمجال الأكاديمي للتواصل معًا والالتزام بالعمل من أجل إنهاء المعاناة ومنعها، وتخفيف آثار الأزمات المستقبلية وتوجيه التمويل لإنقاذ الأرواح من أجل الإنسانية. وكما ورد في تقرير اللجنة رفيعة المستوى عن التمويل الإنساني المرفوع إلى الأمين العام للأمم المتحدة (ديسمبر 2015) تحت عنوان التمويل الاجتماعي الإسلامي للعمل الإنساني، فإن 90% من الأزمات الإنسانية اليوم تحدث في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. كما ينشب 31 من 32 نزاعًا قائمًا اليوم في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. ويؤكد التقرير وجود احتمال حقيقي للغاية أن يوفر التمويل الإسلامي حلولاً لمشكلة تمويل المساعدات الإنسانية العالمية. ويتابع إنه من شأن واحد في المائة فقط من الزكاة أن تصنع فارقا هائلا في حجم عجز التمويل العالمي لعام 2015. وفي هذا المقام، أجد لزامًا علي أن أذكر بالدعوة التي أطلقتها منذ ثلاثين سنة ونيف، وما زلت أجددها حتى يومنا هذا، إلى إنشاء المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل لتحقيق أهداف الزكاة والتكافل في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية بعيدا عن التدخلات السياسية. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال القيام بمشروعات مشتركة، وتوزيع أعمال الإغاثة في حال حدوث الكوارث، ورفد خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إيمانا بأن الدور الذي تقوم به الزكاة سيؤدي حتما إلى القضاء على صور الحاجة والفقر في العالم الإسلامي بشكل خاص، وفي العالم أجمع إذا ما اقترنت بالعمل الإنساني، بوجه عام. فكان من أهداف هذا المشروع الإسهام في مشروعات الإغاثة وتقديم يد العون لضحايا الحروب والنزاعات واللاجئين، التوعية والتعريف بأهمية الزكاة، العمل على جمع أموال الزكاة والصدقات من جميع الأفراد والجهات المانحة، التعاون مع مؤسسات الزكاة المحلية والإقليمية ضمن معايير الكفاءة والمساءلة، تنمية أموال الزكاة من خلال استثمارها وإقامة مشاريع وشراكات استراتيجية، تأهيل الفقراء ودعمهم ليتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم وتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال مشاريع تنموية محددة تنسجم مع حاجاتهم وكفاءاتهم، دعم بناء المدارس ودور الأيتام والعيادات الصحية، دعم برامج التنمية المجتمعية، وضع حلول مستدامة تسهم في علاج أسباب الفقر والمرض والأمية، ابتكار أشكال جديدة من المؤسسات الوقفية والاستثمارية القادرة على الاستجابة لحاجات العصر، وتطوير التشريعات والقوانين التي تسهم في تطوير المؤسسات الوقفية. ويتطلب تحقيق هذه الرؤية على أرض الواقع الانتباه إلى جملة من المعطيات، أهمها: التنسيق بين الهيئات والمؤسسات المحلية والدولية التي تعمل في مجال الزكاة، والعمل الدائم على تطوير الاجتهاد المالي والاقتصادي المعاصر من منظور إسلامي. ويمكن لمؤتمر القمة هذا، وفق ما ورد في التقرير المشار إليه، أن يكون منبرًا لإطلاق العنان للإمكانات الكاملة للتمويل الإسلامي الاجتماعي بما يلبي الاحتياجات الإنسانية المشتركة بشكل مستدام. ولا شك في أن للزكاة والوقف دورا في تحقيق السلم والأمن الاجتماعي. فما أحوجنا اليوم إلى توظيفهما بالشكل المطلوب من أجل الاستجابة للحاجات الإنسانية والمجتمعية المتجددة. تتمثل الغاية المنشودة، التي تم تحديدها منذ اقتراحنا إنشاء المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل، في تحقيق أهداف الزكاة في المجتمع الإنساني بعيدا عن التدخلات السياسية والمؤثرات، بحيث تكون مؤسسة عالمية إنسانية مستدامة، تقدم أنموذجًا متميزًا للخطاب الحضاري الإسلامي في المجتمع المعاصر. وبموجب الإحصاءات المتاحة، هنالك كم كبير من صناديق الزكاة في مختلف دول العالم تسهم في خدمة أغراض إنسانية نبيلة. لكن، من الواضح أن هذه الجهود بحاجة إلى الالتقاء والانتظام والتكامل في إطار مؤسسة عالمية واعدة تقلل ما أمكن من الازدواجية في العمل. ولا ريب في أن انطلاق مؤسسة عالمية للزكاة سوف يسهم بشكل واضح وناجع في التصدي للمشكلات والتحديات والكوارث بأنواعها التي تطال قطاعات واسعة من المسلمين على صعيد العالم. كذلك، لا تقتصر رؤية هذه المؤسسة للزكاة على أبعادها الدينية والروحية فقط، بل تنظر للزكاة أيضًا بوصفها فكرة اقتصادية تنموية شمولية يتعدى دورها جمع الأموال من المحسنين وتوزيعها على المحتاجين. فعلى سبيل المثال، اقترحت مؤخرًا أن تكون المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل وسيلة إنقاذ مبدعة لوصول المساعدات الإنسانية للمقدسيين في القدس القديمة، حيث يعيش اليوم 95% منهم داخل الأسوار تحت خط الفقر، في حين يعاني 76% من المقدسيين في حدود القدس الشرقية المحتلة عام 1967م من الفقر والمشاكل الاجتماعية الناجمة عنه. إن القدس وأهلها يستحقون منا كل دعم واحتضان. لذلك، نجدد الدعوة إلى إبقاء القدس حاضرة في الضمير الإنساني من خلال دعم صمود أهلها وتعزيز وجودهم في هذه المدينة المقدسة التي تحتضن بين جدران حاراتها العتيقة الديانات السماوية المختلفة.