×
محافظة المدينة المنورة

إمام وخطيب المسجد الحرام: الحياةُ في ظِلالِ القرآن نعمةٌ تُبارك العمر وتزكيه وتسعد القلب وتهديه

صورة الخبر

الشيخ راشد الغنوشي شخصية قيادية في ساحة عمل الإسلام السياسي. وهو من القلة، مثل الزعيم السوداني الراحل حسن الترابي، التي لها من الحضور والنفوذ ما يمكنها من تغيير مسار الحركات، والحكومات الإسلامية، وإنقاذها من نفسها، وإنقاذ المنطقة من مشاريعها بالهيمنة على الحكم. لكنّ هناك نسختين مختلفتين من الشيخ، هناك راشد الغنوشي الذي يخاطب الغرب، وراشد الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي. تزامنًا مع المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية المنعقد الأيام الماضية، قال الغنوشي لصحيفة «لوموند» الفرنسية: «نحن نؤكد أن النهضة حزب سياسي، ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مُسْلمة وحداثية. نحن نتجه نحو حزب يختص فقط بالأنشطة السياسية.. سنخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المُسْلمة. نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نُعرّف أنفسنا بأننا من الإسلام السياسي.. نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تمامًا عن النشاط السياسي. وإن هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وجيد أيضًا للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفًا من قبل السياسيين».. كلام عظيم في زمن يحتاج إلى مثل هذا الطرح. إنما النسخة الأخرى من الغنوشي سمعناها في كلمته للحزب في نفس اليوم، قال: «نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية، رغم أن زعماء الحركة الوطنية تاريخيًا كانوا متشبثين بديننا الإسلامي الحنيف». أصابنا بالحيرة لأنه يقول كلامًا متناقضًا في نفس النهار. فالحياة الوطنية المعني بها العمل السياسي، يستنكر هنا على من يريد الفصل، في حين أن حديثه للفرنسيين يعد بفك الديني عن السياسي! وأكثرية العاملين في الأحزاب الأخرى هم أيضًا توانسة وطنيون ومسلمون، لكن «النهضة» تريد أن تقدم أنها ممثلة الإسلام. وهنا يقع الخلاف، فالإسلام عقيدة ثابتة، أما السياسة فهي عمل مدني متغير، وقد دأب طلاب السلطة من المشتغلين في الدين على استخدامه. رئيس تونس الذي ذهب ليلقي كلمته أمام حزب النهضة قال إنه تردد في الحضور لمؤتمر الحزب، نظرًا لكثرة الأحزاب المرخص لها في تونس، نحو 204، لكنه خَصَّ، «النهضة» لأنه حزب له دور مهم، وحثه على التحول نحو المدنية. ورغم تناقضها، استقبلت تصريحات الغنوشي لـ«لوموند» الفرنسية بحماس وترحيب في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات فكرية وسياسية، اعتبروها تحولاً فكريًا وتاريخيًا مهمًا. وأن الشيخ، بهذا الفكر، سيقود، لا تونس وحدها، بل العالم الإسلامي نحو مشروع تحديث مفهوم ودور الإسلام السياسي. وحديثه، إن كان يعنيه، يعكس فكرًا متطورًا متقدمًا على غيره من شيوخ الدين السياسي، إنما لا نعرف حقًا من نصدق غنوشي «اللوموند» أو غنوشي «النهضة الدينية التونسية»؟! وهو ليس وحيدًا في ازدواجية الخطاب. ما الذي يجعل القيادات الموسومة بـ«المعتدلة» تتبنى خطابات متناقضة؟ هل هي سياسة التقية؟ أو التسويق لشخصياتهم وأحزابهم مع الغرب؟ أم أنهم يعيشون حالة متناقضة؟ سبق لي أن جلست مع كثير منهم وناقشتهم، بمن فيهم الشيخ راشد، ورغم الخلاف بيننا، الذي وصل إلى المحاكم البريطانية، فهو شخصية فكرية كبيرة، ويملك طرحًا مجددًا، وقد عايش التيارات المختلفة، وتعلم منها، وأثر فيها، لكنني أرى الشيخ ثعلبًا، ككل ثعالب السياسة. وهذا لا يقلل من قيمة فكره، وأنا أتصوره يعني ما يقوله عن رغبته في تطوير الفكر الحزبي الإسلامي ليقترب من التجربة الغربية الأوروبية، بحيث يستطيع أصحاب الأفكار الإسلامية الاشتغال بالسياسة والتأثير عليها من وجهة نظرهم الدينية، وفي نفس الوقت احترام البرامج والأحزاب والشخصيات المنافسة لهم ضمن المفهوم الديمقراطي الواسع. إلا أن الذي قد يعيق هذا الفكر المتسامح رغبته في البقاء في السلطة، لأنه كقيادي عليه تبني فكر رفاق الحزب، وأغلبهم لا يشاطرونه الأفكار الليبرالية الغربية. لهذا نراه يلبس قبعتين، كمفكر إسلامي غربي ليبرالي، وأخرى حزبي إسلامي إقصائي همّه البقاء في السلطة. كرئيس لحزب النهضة، الغنوشي حريص على إرضاء جماهير الحزب، والجمهور الإسلامي الواسع الذي في أغلبه ضد فكرة التعايش مع الآخر، ويتبنى مبدأ احتكار الحكم وإلغاء الآخر. هذا ما فعله الدكتور الترابي في السودان، وهذا ما كشف عنه حزب الإخوان في مصر، بعد أن ركب الديمقراطية ووصل للحكم، وبعد أن تسلّم السلطة التنفيذية سعى للهيمنة، متخليًا عن احترام قواعد العمل الديمقراطي، مما أعطت ممارساته ذريعة لغيره للوصول للحكم.