قبل قرنٍ من الآن، وفيما كانت دول الاستعمار الغربي، (بريطانيا وفرنسا تحديداً)، منتشية، تعد الخطط لاستثمار كسب الحرب العالمية الأولى في السيطرة على العالم، كانت الإمبراطورية العثمانية تلعق هزيمتها، وتتهيأ، كرجل مريض كان يحتضر، لإعلان شهادة موتها، لمصلحة ولادة تركيا الطورانية العلمانية. أما العرب، وقد كانت بدأت حركاتهم وجمعياتهم وأحزابهم العروبية قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد كانوا يطمحون ويسعون إلى تحويل إرهاصات التشكل القومي المناوئ لالعثمانية إلى دولة قومية، تنقلهم إلى ما كانت وصلت إليه أوروبا من حداثة وتحديث. لكن حداثة الخبرة في ميدان الفكر والسياسة، قادت العرب إلى الثقة بوعود دول الاستعمارالغربي الكاذبة لكسب ودهم ضد سلطنة عثمانية عافوها. في ظل تلك الحالة العربية، وذاك الميزان الدولي للقوى، صاغت دول الغرب الاستعماري، اتفاقية سايكس بيكو، كخطة استعمارية، تقاسمت، بموجبها، تركة السلطنة العثمانية، وقسّمت، وتقاسمت الوطن العربي، وحقنت الوعد الإلهي المزعوم بالوعد الاستعماري المشؤوم لزراعة الكيان الصهيوني في قلب الأمة فلسطين. ولا عجب. فقد كانت تجزئة العرب شرطاً لازماً لترسيم مشروع إنشاء الكيان، وكان تحويل هذا المشروع إلى واقع شرطاً لازماً لإدامة تلك التجزئة. والآن، بعد مرور قرنٍ من تطبيقات خطة سايكس بيكو، و68 عاماً من تنفيذ شقها المتعلق بإنشاء الكيان الثكنة، يواجه العرب مصيبة، لعلها الأخطر، بعد مصيبة تجزئة الوطن العربي، ونكبة ضياع فلسطين. إنها المصيبة التي بدأت قبل خمس سنوات، وينذر استمرارها، بديناميكيتها الجهنمية التفكيكية التدميرية، وتداعياتها وارتدادتها الكبيرة، بإعادة رسم خرائط سايكس بيكو، وتجزئة حدودها الجغرافية إلى دويلات هوياتية طائفية ومذهبية وإثنية، أي إلى كيانات ما قبل قومية، لا تقود إلى تجزئة المُجزأ، فحسب، بل وتتيح، وتبرر، فرْض الكيان الصهيوني دولة لليهود، أيضاً. هنا، لأن ما يتهدد العرب، ووطنهم، ودولهم، وشعوبهم، ومصيرهم، ومستقبل أجيالهم، وقضيتهم المركزية فلسطين، على هذا القدر من الخطورة وأكثر، فلنطرح السؤال الذي لا مناص من إثارته للبحث والتفكير السياسي، وهو: ما هو السبب الأساس الذي جعل تطبيق خطة سايكس بيكو، حين طرحها، تحصيل حاصل، ويجعل، الآن، فكرة إعادة رسم خرائطها قابلة للتطبيق، إنْ بصورة رسمية كما حصل في السودان، أو بصورة واقعية، قد يتم ترسيمها، بسيناريوهات مختلفة، في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، والحبل على الجرار؟ هذا سؤال تاريخي كبير، معقد، وشائك، لكن، لنجتهد في الإجابة بالقول: ما كان لتطبيق خطة سايكس بيكو أن يكون، أو على الأقل، ما كان له أن يتم بتلك السهولة، أو أن تصمد نتائجه لقرنٍ، لولا أربعة قرون من حُكْم الإمبراطوية العثمانية للعرب، وتحكمها فيحياتهم، وزجهم في ظلم وظلام نظام الملل الانكشاري الخراجي، الذي شكّل حقبة انحطاط طويلة، سبقتها، وأسست لها كارثة عام 1258، حين هاجم المغول بغداد، واحتلوها، ودمروا حضارتها الزاهرة، ليدخل العرب بعد انهزام المغول في عصر الضباط وقادة الجيوش الذين تحولوا إلى سلاطين آل عثمان، الذين لم يكن لهم من همٍّ إلا جمع الخراج، وحشد جيوش السفر برلك، شرقاً وجنوباً وغرباً وشمالاً. وقبل سنوات، حين قفزت جماعة الإخوان، (الحزينة على انهيار نظام الخلافة العثمانية)، إلى السلطة في مصر، انتعشت أطماع أردوغان العثمانية الجديدة بالسيطرة على المنطقة العربية، فسارع إلى إبلاغ واشنطن ما مفاده أن (إقليم الشرق الأوسط بين خيارين: إما اتجاه ابن لادن الإرهابي، أو اتجاه جماعة الإخوان المعتدل)، بل، ولم تدفع إطاحة الشعب المصري سلطة الإخوان أردوغان نحو التخلي عن أحلام عقله الانتصاروي الفاشل، الأقرب للسذاجة وافتقاد الحس التاريخي، بل نحو الغلو وإطلاق مشروعه الإلحاقي التدميري، حيث فتح حدود تركيا لعبور أفراد عصابات الإرهاب التكفيري، وما يلزمهم من عتاد، إلى العراق وسوريا. وفيما ينكر أردوغان ذلك، فإن المخابرات المركزية الأمريكية تعلن أن نصف هؤلاء الإرهابيين، هم من الأجانب، ما يعني أنهم لم يهبطوا من السماء. أما في السياسة فموقف تركيا أردوغان من الأزمات العربية الجارية، أسوأ حتى من موقف واشنطن التي لا يزعجها أن تتحول الدماء العربية لحقل تجارب، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربات ماحقة للجيش السوري، بينما لايزال أردوغان يحثها على فعل ذلك، حتى لو أفضى ذلك إلى الطوفان، أو إلى فراغ تملؤه جماعات تكفيرية إرهابية تبيد ما عداها. إن كل ما تقدم يستحث ضرورة استعادة الروح القومية العربية، وبعث الفكر القومي في وجدان الشعوب، بديلاً عن كل الانتماءات الطائفية والمذهبية والإقليمية المتعصبة، وبعيداً عن التداخل مع قوى العولمة الرأسمالية المتوحشة. إن العرب الآن، بعد قرن على سايكس بيكو، على مفترق طرق، وأمام امتحان التاريخ حول كيان الأمة، والفشل، هنا، هو نجاح للعثماني المتربص شمالاً، وللصهيوني المتحفز كسرطان في قلب الأمة والوطن العربي. هذا واجب المفكرين والمثقفين قبل السياسيين، وواجب جهاز التعليم والتنشئة الاجتماعية، وهو ما يحتاج إلى جهد كبير حتى يستعيد كل عربي الحلم والروح القوميتين. علي جرادات ali-jaradat@hotmail.com