تعد مدينة الرياض واحدة من أبرز عواصم العالم تمددا واتساعا وأكثرها كثافة سكانية فأنت لا تستطيع التعرف عليها بعد غياب عام واحد ولكن هذا التمدد تزامن معه زحام فظيع يلزمه شبكة مواصلات أرضية تربط بين أطرافها كباقي العواصم الكبيرة. ليس هذا موضوعي ولكن فاجأني أن عددا من المثقفين كانوا يطرحون حلولا لازدحام مدينة الرياض فإذا من بين الحلول فكرة إخراج المتقاعدين إلى ضواحي الرياض كحل للأزمة؟ ظننت أن الأمر لأول وهلة مزحة لكن بعضهم أخذ يفند وجهة نظره بأن المساكن سيحل فيها الموظفون والعمال الجدد وهذا يخفف من حدة الزحام الذي لا يطاق في العاصمة الجميلة. وبهذا أضحى ترحيل المتقاعد الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة الوطن، في غمضة عمر، حلا لأزمة المواصلات..! مواطن أنفق ما لا يقل عن حقبتين من عمره في العمل، دوام ومواصلات وضغط وسكر يصبح عبئا على مدينته ويصير كومة متقاعدة ينبغي استبعادها إلى مكان يحتويها كضواحي المدينة؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل يوجد في ضواحي المدينة سكن مناسب لاستقبال المنفيين الذين انتهت صلاحيتهم من المتقاعدين أم سوف تنصب لهما خيام كاللاجئين لحين خروج آخر أنفاسهم؟ في كثير من الدول المتقدمة تبنى مساكن أشبه بمدينة عبارة عن فلل سكنية وأسواق ومطاعم ومستشفيات ومتنزهات مستعدة لاستقبال هؤلاء الأبطال العائدين من دنيا التفاني في العمل إلى حياة الهدوء والسكينة حاملين في حقائبهم خطابات شكر ودروع تقدير على صبرهم والتزامهم وخدمتهم لمواطني بلدهم. فهل أعددنا لمتقاعدينا هذا المصير الجميل؟ تخيل أنك متقاعد تقضي بقية حياتك في بيت مستأجر، تخشى أن يطرق بابك صاحب البيت ليبلغك أن الإيجار زاد ألفي ريال، في حين أن راتبك التقاعدي في ظل ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية لم يزد سوى 200 ريال، أو تخيل أن صاحب الملك قرر أن لا يرفع الإيجار هذه السنة بل سوف يرفع بمكان شقتك بناية سكنية لمواجهة التزايد في السكن وأن عليك أن تخلي شقتك الصغيرة في غضون شهرين! تخيل أنك متقاعد مصاب بالضغط وتكدس الكوليسترول على أوردتك التي ضاقت بضخات قلبك المجهد وأنك زرت الصيدلية لتشتري الدواء كالعادة فإذا بصاحب الصيدلية يخبرك بأن الدواء القديم منقطع وأن عليك استبدال الدواء بآخر أعلى سعرا! سوف تأخذ موعدا مع طبيب المستوصف وتترجاه أن يصف لك دواء أقل سعراً! تخيل أيضا أنك خرجت بسيارتك المرسيدس 2008 لتشم الهواء في الصباح في أحد المقاهي السعيدة فإذا بفاتورة وجبة الإفطار، كوب من عصير البرتقال الطبيعي وكلوب ساندويش، قيمتها 123 ريالا أي ما يعادل 5 % من راتبك التقاعدي، وعندما وقفت عند محل قطع الغيار لتغيير قماش الفرامل وصلك أن السعر الجديد في الوكالة قد زاد 200 % وأن التكييف الساخن لا يمكن إصلاحه لأن هذا الموديل لم تعد موجودة غياراته في سوق قطع غيار السيارات وما عليك إلا أن تذهب للتشليح! من يذهب للتشليح؟؟ قد يتساءل هذا المتقاعد الحزين الآن. من الذي سوف يذهب إلى قسم التجزئة ليحال إلى قطع صغيرة لا فائدة منها؟ أجزاء قديمة مستعملة تعمل في كينونة أخرى. كأن تجلس مراقبا لأطفال أبنائك والخادمات والسائقين مثلا.. أو أن تجلس مراقبا لمتجر صديقك حماية له من تجاوزات العمال. أو أن تجلس مراقبا للعالم في نافذة بيتك وهو يصعد بأسعار السلع الاستهلاكية والغذائية ووقود السيارات وإيجار الشقق وأنت براتبك محلك سر.. 6 آلاف ريالا فقط منذ أعوام.