في سورية التي تلتهمها الحرب، ما زال هناك أناس متمسكون بالحياة، ويعيشونها إلى أقصى حد تسمح به ظروفهم، هناك الكثير من قصص الحب والزواج، والكثير من الشباب والشابات الذين يخرجون للمشي في دمشق القديمة قبل أيام كنت أتحدث عبر الهاتف مع قريبة لي مقيمة في سورية، وبالطبع فقد كان معظم الحديث عبارة عن أسئلة متألمة مني، وإجابات شاكية منها، يشوبها بعض الضحك المرّ أحياناً، فأسألها مثلاً عن توفر المعكرونة في المنطقة التي تعيش فيها لأني أعرف أنها كانت تحبها كثيراً وتتفنن في طرق صنعها، وتجيبني بأنه يتوفر أنواع من المعكرونة لكنها تبدو مصنوعة من قشور الشعير أو من الخبز اليابس المعاد تدويره، ونضحك ضحكاً أسود لطريقتها الساخرة في الشكوى، وأسألها كم تنقطع الكهرباء، فتجيبني لقد وصلت الكهرباء الإثنين الماضي وبقيت أكثر من ساعة ونصف الساعة، وأثناء الحديث كنت أسمع عبر الهاتف صوتاً غريباً أشبه بالرنين، سألتها عن ماهية الصوت، فقالت إنه صوت المدفعية القريبة، أو إطلاق رصاص قريب، وأعدت عليها السؤال بأن ليس هذا ما أقصده، لكنها لم تعرف عن ماذا أتحدث، وبعد عدة مرات خلال المكالمة، سمعت الصوت واضحاً، فقاطعتها قائلة: أقصد هذا الصوت، عندها انتبهت واستغربت سؤالي، وقالت: ما بك؟ هذا صوت أساوري حين أنقل السماعة من أذن لأذن. من مكاني البعيد الذي يرى سورية عبر التلفزيون حقلاً واسعاً من الموت والدمار، استغربت أن أسمع رنة إسوارة، فعقلي لم يعد قادراً على تصور أن في سورية ما زال هناك نساء تلبس الحلي وتتغاوى برنينها، وسألتها: أما زلت ترتدين أساورك؟ استغربت السؤال أيضاً، وقالت: ولماذا سأخلعها؟ قلت لها: لا أعرف، لكن بسبب كل ما نسمعه عن صعوبة الحياة في الداخل السوري، وكل ما تخبريني إياه عن ظروف الحياة اليومية، ربما تشكل عندي انطباع أنكم فقدتم القدرة والرغبة في الاهتمام بهذه الأشياء، فقالت: ما زلت أرتدي أساوري، وما زلت أصفف شعري وأهتم بتناسق ملابسي، وأختار أقراط أذني بدقة كما كنت أفعل قبل الحرب، ربما تخرب البلد، وربما مات الكثير من الناس، ولكن هذه الأشياء البسيطة لن يستطيع أحد أن يسلبنا إياها، فهي آخر ما تبقى لنا من إنسانيتنا ومن ذاكرتنا ومن عالمنا القديم التي تهدم. تغيرت طبيعة أسئلتي تلقائياً بعد هذا الجواب، فرحت أستفسر عن تفاصيل وأشياء لم تخطر ببالي من قبل، بدلاً من تلك الأسئلة المليئة بالتعاطف المرضي، ففي الحقيقة نشعر نحن المقيمين في الخارج بنوع من التعاطف الذي يحمل شيئاً من التعالي والشفقة على من هم في الداخل، حتى إننا نشعر ببعض الذنب لأننا نعيش بأمان في حين يعيش أقرباؤنا وأحبتنا في خطر وفقر، وبنتيجة الحديث وإجابات قريبتي الهادئة والمنطقية وصلت لنتيجة ربما ستجعلني أعيد النظر في كثير من الآراء والانطباعات التي شكلتها بسبب الصورة التي يقدمها الإعلام والتي يقدمها الأصدقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي. في سورية التي تلتهمها الحرب، ما زال هناك أناس متمسكون بالحياة، ويعيشونها إلى أقصى حد تسمح به ظروفهم، هناك الكثير من قصص الحب والزواج، وهناك الكثير من المواليد الجدد، والذين أعتقد أنهم أكثر مما قبل الحرب، فالناس تنجب أبناء أكثر كرد فعل لا شعوري لحجم الموت المحيط بهم، وما زال هناك الكثير من الشباب والشابات الذين يخرجون ليمشوا في دمشق القديمة، وكثير من مطاعمها ومقاهيها ما زال يعمل رغم كل الظروف، هناك أصدقاء يعيشون في سورية ويمضون وقتهم بين القذيفة والقذيفة بالاستماع للموسيقى وكتابة الشعر، وهناك مشاريع لروايات ومسرحيات يقوم بها مبدعون سوريون، لم يستسلموا للموت، ويحضرون شيئاً ما للحياة القادمة التي ينتظرونها ويتمسكون بها، هناك رسامون يبدعون لوحات جديدة، وربات بيوت يصنعن المونة المنزلية الشهيرة، ويتفنن في صنع المربيات والمخللات، وما زال هناك الكثير من حكايات الغيرة والخيانة، والزواج والطلاق. قريبتي التي تحدثت عنها لم تتخل بعد 5 سنوات من الحرب عن إحدى عاداتها السيئة (أو الظريفة من وجهة نظر أخرى) ومارست النميمة والتهكم على الآخرين، وأخبرتني ببضع قصص ساخرة عن صديقات وقريبات، وعن فلانة التي ما زالت تلاحق زوجها لمراقبته، وكيف اخترعت طريقة جديدة لتجاوز الإعاقة التي تفرضها الحواجز أثناء مراقبتها لزوجها، وعن فلانة التي نجح الازدحام وإغلاق الشوارع في إجبارها على المشي لمسافات طويلة، وبالتالي نجحت أخيرا في تخفيض وزنها بعد 20 عاماً من المحاولات الفاشلة. قد أكون ساذجة في استنتاجي المتأخر، لكن تفاجأت بأن في سورية المحترقة ما زالت هناك أساور ترنّ.