في كل الكتب والدراسات التي تتحدث عن الأدب الأرجنتيني. وفي كل الحوارات التي تجرى مع كتّاب كبار من الأرجنتين من طينة جورج لويس بورغس أو خوليو كورتاثار، ثمة اسم لشاعر واسم لملحمة يردان دائماً على اعتبار أن الملحمة التي كتبها ذلك الشاعر، هي النص المؤسس للأدب الأرجنتيني. أي أول نص جعل لهذا الأدب استقلاليته عن الأدب الإسباني، ليس فقط في المضمون والشكل الأدبي، بل كذلك في اللغة المستخدمة للكتابة، أي لغة «الغوتشو» التي هي مزيج من الإسبانية الشعبية وبعض اللهجات المختلطة، هندية الأصل أو غير هندية. بالنسبة الى بورغس وكورتاثار وغيرهما، يعتبر هذا النص السلف الأكبر لكل ما كتباه وكتبه غيرهما من نصوص وأشعار، حتى وإن كان التوجه السياسي لأي خلف مختلفاً عن توجه سلفه. غير أن عامة القراء في الأرجنتين وفي غير الأرجنتين لا يكتفون بهذه النظرة الى هذا العمل، بل يعتبرونه ملحمة الشعب بامتياز، سياسياً ووطنياً، من دون توقف منهم أساسي عند مسألة اللغة وريادة التأسيس وما الى ذلك. الشاعر الذي نعنيه هنا هو خوسيه هرنانديس، أما الملحمة فهي بالطبع «مارتن فييرو». > يصعب طبعاً، ومنذ قرن وأكثر من قرن أن تجد أرجنتينياً لا يحفظ هذا النص عن ظهر قلب. بل يصعب كذلك أن تجد مغنياً أصيلاً، لا يحوّل أجزاء من الملحمة الى أغان شعبية ينشدها. ذلك أن ملحمة «مارتن فيرو» تواكب الإنسان الأرجنتيني في حياته ويومياته وفي حله وترحاله. إنها عمل طاغ، الى درجة أن أحداً بالكاد يمكنه أن يذكر أي عمل آخر للشاعر والصحافي هرنانديس الذي أبدعه. بل إن كثراً في الأرجنتين يعرفون «مارتن فيرو» من دون أن يسمعوا في حياتهم باسم هرنانديس أو يحفظونه. ناهيك بأن كثراً من الطليعيين اليساريين يتساءلون دائماً عن الكيفية التي تمكّن بها كاتب تغلب النزعة الكاثوليكية والمحافظة على بعض مراحل حياته، من أن يكتب للأرجنتينيين النص الأكثر يسارية وتقدماً في تاريخ أدبهم القومي؟ > مهما يكن من أمر، علينا هنا أن نتذكر أن ملحمة «مارتن فيرو» كتبت على مرحلتين، أولاهما بدأت حين كان الشاعر منفياً في البرازيل بعد هزيمة ناييمبي (1870) التي كانت هزيمة للتيار الذي انتمى إليه. أما المرحلة الثانية فكانت خلال النصف الثاني من سبعينات القرن التاسع عشر، حين كان هرنانديس قد عاد الى الأرجنتين، وخفّت غلواء ثوريته. ومن هنا يمكن النظر الى القسم الثاني والمُعنوَن «عودة مارتن فيرو» من الملحمة باعتباره عودة من هرنانديس الى عقلانية تتعارض الى حد ما مع ثورته السابقة التي كان عبر عنها في القسم الأول من الملحمة. > عند بداية الملحمة، يطالعنا «الغوتشو» الشاب مارتن فيرو، وقد جنّد قسراً في قوات حرس الحدود، بدءاً من العام 1863، الذي تبدأ تلك الأحداث فيه، وهي أحداث ستستمر في الجزءين حتى العام 1879، أي العام نفسه الذي طُبع فيه جزءا الملحمة. لكن مارتن الشاب لا يبدو منذ البداية قادراً على تحمّل امتثالية الحياة العسكرية وانتظامها، فيهرب من الجندية، عائداً الى مسقط رأسه بعيداً من مناطق الحدود. لكنه يفاجأ إذ يعود بأن مزرعته قد دُمرت وأن عائلته قد تشتتت. بعد حين، يرتبط مارتن بصداقة مع العريف كروز الذي يشاطره أفكاره وآراءه، وإذ يخوض الاثنان جملة من الصراعات والمعارك ينتهي الأمر بمارتن فيرو الى أن يُعيَّن هو الآخر عريفاً في الشرطة. وإذ يكون على الصديقين أن يحفظا الأمن ويطبقا القانون، نجدهما أمام الفساد المستشري والذي يغيظهما أكثر وأكثر، يشعران أنهما ليسا في مكانهما الطبيعي. إذ انهما هنا، في جهاز الشرطة، ليسا كما يكتشفان، أكثر من دمى في يد رؤسائهما الفاسدين والقضاء الذي يضع نفسه في خدمة أصحاب السلطات. وإذ يقرران معاً أن المسألة تتعدى الفساد الشخصي، يريان أن كل الحضارة التي ينتميان اليها ويدافعان عنها هي المسؤولة عن هذا الوضع. فما هو الحل؟ ببساطة: يكمن الحل في مبارحة هذه الحضارة التي لن يمكن أبداً إصلاحها من الداخل، والتوجّه للعيش في أوساط الهنود، أي في حضن الطبيعة غير الفاسدة، وسط قوم لم تفسد الحضارة أخلاقهم. وهكذا يتجه الاثنان للعيش لدى سكان تلك المناطق الأصليين، في مشهد أخاذ يختم القسم الأول من الملحمة. وهذا القسم كان يشكل، على أي حال، كل الملحمة كما دوّنها قلم خوسيه هرناندس خلال سنوات منفاه البرازيلي. أما القسم الثاني والذي كتب لاحقاً، أي بعدما كان الشاعر قد عاد الى بلاده وخف حماسه المشاكس، فإنه يتعاطى مع مسألة عودة مارتن فيرو نفسه الى الحضارة التي كان غاضباً عليها. لقد عاد الى المجتمع، بل، تحديداً وكما يقول لنا الشاعر بكل وضوح، عاد الى القيم الكاثوليكية بعدما عاش جزءاً من سنوات حياته في حضن الطبيعة... ويلفتنا الشاعر هنا الى أن تلك الحياة مع الطبيعة كانت هي من أحيا لدى مارتن فيرو روح النزعة الفردية المتحللة. ومع هذا، ها هو مارتن فيرو، ومعه الشاعر نفسه إذ جعل من البطل لسان حاله، ها هما يريان أن لا حياة حقيقية خارج الشرائع الوضعية والقوانين الحضارية. فبالنسبة إليهما كان الاكتشاف الأساس أن الحرية الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في حدود التجربة الاجتماعية الحضارية. ومن الواضح اننا هنا أمام قلبة مسرحية ليس من الصعب فهمها في ارتباطها مع التبدلات التي طاولت عمر الشاعر وسياسته وخيباته الأيديولوجية، غير أن العسير على الفهم في الوقت نفسه، هو مسألة تلقي القراء العاديين على مدى التاريخ، للعمل كما هو واعتبارهم جزءيه الأول والثاني، نصاً واحداً، على عكس قراء النخبة والدارسين الذين فصلوا بين القسمين ليدرسوا من خلال الفوارق - الأساسية - بينهما، تحولات الشاعر كصورة لتحولات أجيال بكاملها من المثقفين. > غير أن هذا كله لم ينقص شيئاً من قيمة ملحمة «مارتن فيرو» الفنية، إذ إن هذا العمل، وحتى وإن كان يتميز، أدبياً بالأحرى، بإيقاع بطيء يصل في وصف التفاصيل، أحياناً، الى مستوى بليد، تم القبول به دائماً كما هو. بل على الأرجح، ليس في وحدة متكاملة، بل نتفاً نتفاً، بحيث أخذت كل طبقة وفئة من طبقات وفئات الشعب الأرجنتيني، جانباً منه يبرر مواقفها في لحظة أو في أخرى من لحظات وجودها. ولعل هذا الواقع هو الذي أضفى على «مارتن فيرو» تلك المسحة الإجماعية التي أضفت عليها بعداً قومياً، حتى وإن كانت تبريرات اليسار واقتباساته منها، كانت لها اليد الطولى في معظم الأحيان. في اختصار إذاً، ككل إبهام وغموض يسمان كل نص قومي من هذا النوع، عاشت ملحمة «مارتن فيرو» حياتها الخاصة، الجامعة المانعة، مسهلة لمن يريد أن ينهل منها، سبيله، بما في ذلك سينمائيون حققوا انطلاقاً من شتى أجزاء الملحمة أعمالاً ستبدو متناقضة المنحى في نهاية الأمر. > والحقيقة أن ما يمكننا أن نعود اليه في هذا السياق هو واقع أن مصير ملحمة «مارتن فيرو» إنما يتماهى تماماً مع مصير شاعرها. تكاد تشبهه في حياته وتبدلاتها هو الذي ولد سنة 1834 وتوفي سنة 1886، وكان شاعراً وصحافياً، من أصول مختلطة إسبانية، إيرلندية وفرنسية. وهو نشأ في مزرعة لأبويه، أما حياته فقد تنقلت بين هواية الأدب والشعر باكراً، ثم امتهان الصحافة لاحقاً، مع انخراط في الحروب المحلية، مطالباً بلامركزية شديدة في الحكم والإدارة. وكان يؤمن بالاقتصاد الفلاحي وبالنزعة الفيديرالية القائمة على التربية والتعليم. لكنه كان، أيضاً، معادياً للنزعات الهادفة الى أَوربة الأرجنتين وثقافتها. وهو، إذ خاض معترك السياسة، هُزم مرات عدة ونفي الى البرازيل حيث، كما أشرنا، كتب القسم الأول من ملحمة «مارتن فيرو» التي باتت منذ نشرها في سنة 1879 بصورتها النهائية، ملحمة الأرجنتين.