يتعامل الإسبان مع الرياضة بشكل مختلف عنا نحن في الوطن العربي على سبيل المثال، فالإسباني يعد حضوره لأي مباراة، شكلا من أشكال الترفيه، ذلك الذي يمكنه أن يأخذ زوجته أو صديقته وأبناءه ويكون متأكداً أنه سوف يستمتع جداً بهذه النزهة، باختصار يقدم الإسباني أروع مثال على أن الرياضة تعد شكلا من أشكال الفن والثقافة التي تقوم على التهذيب والرقي، وهذا أمر أجده بالنسبة لي، فريداً على مستوى الثقافات العالمية. لذا تجد الرجل الإسباني، يأتي إلى العاصمة إذا ما كان فريقه سيلعب ضد نادي ريال مدريد، وهو لديه طقوس جميلة وعادات لطيفة للغاية، فهو يعد مجيئه إلى العاصمة أقرب لأن يكون رحلة من أن يكون شيئاً آخر، لذا فهو يأتي مبكراً، ويذهب مع زوجته أو أطفاله، إلى الحديقة أو زيارة الأسواق والسينما والمقاهي، يستمتع بوقته ويقدّس هذا الوقت الفاصل ما قبل المباراة، وما إن يحين وقت المباراة، حتى يستعد للذهاب إلى الملعب سعيداً وبهياً، ممنياً نفسه بمشاهدة مباراة متميزة تبقى في الذاكرة وقتاً طويلاً. وفي مايو من عام 2009 شهد الدوري الإسباني مباراة عظيمة، بين فريقي برشلونة وريال مدريد، ومعروف التنافس الهائل بين الكتالونيين (برشلونة) وأهل مدريد، واعتزاز كل واحد منهما بأنه الأفضل والأهم، ولأن المباراة عُرف أنها ستشهد قتالاً كروياً على البساط الأخضر، قرر صديقان من الإمارات حضور المباراة، وقد كان الإماراتيون من مشجعي نادي برشلونة، وشعرا ببعض الخوف أثناء جلوسهم على المقاعد، فقد كان الملعب قد امتلأ بالجماهير المدريدية الغفيرة، وقال أحداهم ويدعى أحمد موضحاً لي: كنت أتساءل أنا وصديقي إذا ما كان الأمر سيبدو عادياً أم لا، ونحن مشجعو نادي برشلونة نجلس جنباً إلى جنب مع مشجعي ريال مدريد؟ وكيف سنتمكن من الاحتفال والصراخ، إذا ما سجل نادينا أهدافاً في شباك خصمه؟ كيف سنحتفل به وسط هذه الجموع الغفيرة من النادي المدريدي. يكمل أحمد حديثه لي بأنه ظل على أعصابه هو وصديقه طيلة المباراة، حيث إن برشلونة قدّم عرضاً رائعاً في تلك الليلة، وحقق انتصاراً مدوياً، فقد سجل ستة أهداف مقابل هدفين لريال مدريد، يقول الإماراتي أحمد: لقد كنت أشعر بالخوف، فكلما جاء هدف أردنا أنا وصديقي القفز والصراخ، لكننا كنا نخشى أن نُضرب أو أن نسوى بالأرض، بسبب حماسة المباراة وسخونة الأجواء، وهزيمة ريال مدريد على أرضه. لم يتعرض أحمد وصديقه لأي أذى، وقد كانا يصرخان في كل مرة يحاول نادي برشلونة الوصول إلى شباك الخصم، رغم ذلك لم يتطاول أحدهم عليهما بالسب أو الضرب. وبعد مرور 90 دقيقة انتهت المباراة التاريخية، بفوز فريق برشلونة بستة أهداف مقابل هدفين لمدريد، وكانت فرحة الإماراتيين كبيرة جداً ويكمل أحمد: خرج الجمهور الغفير الذي ملأ المكان، بكل روح رياضية وأريحية، حيث فتحت أبواب الملعب وقد كانت هناك أكثر من بوابة، ولم يشهد الملعب أي تدافع أو تقاتل أثناء خروج الجماهير، بل خرج الجميع بهدوء وكأنهم للتو خرجوا من أوركسترا غنائية، مبتهجين حتى بخسارة فريقهم، فالهدف من المجيء إلى الملعب لم يكن للعراك أو التنكيل بالآخرين، وتفجير طاقات الغضب الكامنة، نتيجة لمرورنا بأوقات عصيبة، إنما كانت أقرب لأن تكون نزهة بحرية أو نهرية. يقول أحمد، بعد هذه الفرحة العارمة، قلت لصديقي لقد دفعنا ما يقرب من 600 يورو فلماذا نخرج مبكرين من الملعب، دعنا نمضي بعضاً من الوقت لكي نستمتع بالطقس الذي يحف المكان، ونستعيد بعضاً مما حدث في المباراة، ونعيد جمالية الأهداف والاحترافية التي طوقت المباراة العظيمة. وفجأة وبينما هو يتسامر مع صديقه، لمحوا من بعيد عددا من المشجعين وقد جلسا من غير أن يتحركا من مكانهما، ومن بعيد شاهد أحمد وصديقه، عددا من مشجعي نادي مدريد في الطرف الآخر من الملعب، فقال لصديقه: وأخيراً، شاهدنا مشجعين إسباناً حالهم كحالنا، ويشعرون بالألم نتيجة لخسارة فريقهم، حتى إنهم لم يغادروا مع البقية. فآثر أحمد بالذهاب إليهم والسلام عليهم مع صديقه، وحينما وصلا إليهما وجدوهم في حالة من الحزن الشديد، حتى إنهم لم يكونوا يتحدثون مع بعضهم البعض، واكتفوا بتخبئة وجوههم بين أكفهم حزناً وألماً على خسارة فريقهم، وما إن اقترب أحمد وصديقه منهم، حتى يكتشفا أنهما أمام مشجعين من السعودية، كانوا في أشد حالاتهم من الحزن والحسرة والندم على خسارة نادي فريقهم، ولم يكونوا إسباناً، فالإسبان تقبلوا الهزيمة وخرجوا سعداء من المباراة، دون أن يكسروا مقعداً، ويبطحوا رأس مشجع، ودون أن يكيلوا السباب والشتائم لبعضهم البعض، بل خرج الأزواج والأبناء والأصدقاء من المباراة في سعادة، لأنهم في أساس الأمر لم يأتوا من أجل تفجير غضبهم وحزنهم، أنما جاؤوا لمشاهدة عرض رائع. لم يحزن الإسبان الحقيقيون، إنما حزن الإسبان المزيفون على خسارة ناديهم، وهذا بسبب أننا ما زلنا نحمل ذلك الإرث القديم، إما النصر أو الهزيمة، وعدم قدرتنا على تقبل الهزيمة مهما كان الأمر، كما وأن هذا الإرث يعلمنا أن الكرة هي أمل "بعض" شبابنا، وأنا لا أجد في الأمر سوءا، فأنا مثلاً أعشق السينما جداً، وربما يجدها البعض أمراً في غاية التفاهة، لكن الأهم هنا التشكيل والتنوع في الثقافة والإنتاج! المشكلة أن السعوديين والعرب يرفعون من حماستهم للكرة لحد تحويلها إلى أسطورة. وعلى فكرة أنا لا أفهم في الكرة ولا في الرياضة..