إذا كان الكاتب الإنجليزي الساخر الدكتور جونسون قد قال إن القومية الملاذ الأخير للمارقين، فالفكاهة الملاذ الأول للثعالب. ولا عجب، فالثعلب هو الحيوان الوحيد الذي يشارك الإنسان في روح النكتة، كما تشير شتى الأقاصيص عن ابن آوى. بيد أنني هنا أتكلم عن دنيا الإنسان الثعلب كما تنعكس في رجال السياسة. وهو ما يسوقني إلى استئناف الحديث عن السياسي والصحافي الفرنسي جورج كليمنصو الذي ترأس الحكومة الفرنسية خلال الحرب العظمى. وكان من مقالبه المسؤولية عن اتفاقية سايكس - بيكو. وكما سلف أن ذكرت، امتاز بروح نكتة نادرة بما جعل خصمه الكاتب شارل بيغي يصفه فيقول إنه لا مفر له من أن يغفَر عنه الكثير لأنه مازح بالشيء الكثير. لا أدري إن كان يقصد بذلك سايكس - بيكو كمزحة. أظهر كليمنصو روح السخرية مبكرا في شبابه عندما كانت الجماهير تهتف بالإمبراطورية وحياة الإمبراطور نابليون الثالث. ولكنه انبرى من بينهم فهتف «تحيا الجمهورية!» وكلفته التقليعة عدة أيام في السجن. كان يكره الجيش والعساكر. ويعزى إليه ذلك القول الشائع في كل زوايا العالم: «الحرب عملية جدية جدا ولهذا لا يمكن أن نترك أمرها بيد الجنرالات». وعندما سمع بأن أحد كبار الجنرالات قد تزوج شابة حسناء، علق على النبأ بأن «هذا الجنرال سيقتضي عليه أن يدافع على جبهتين». وكنائب في «الجمعية الوطنية»، جلس ذات يوم مع المسيو ساريان المكلف تشكيل حكومة جديدة ليتناولا شيئا من المرطبات. فسأله ساريان: ماذا تشتهي؟ قال: «وزارة الداخلية». تمت الصفقة وذهب لدى تسلمه المنصب ليفتش مكاتب الموظفين. وجد أن سائر الغرف كانت خالية منهم، باستثناء واحدة كان فيها موظف واحد نائما. فحاول السكرتير أن يوقظه فقال له: «كلا، لا تفعل. فحالما توقظه سيترك الدائرة ويذهب للبيت!» ثم أوصى السكرتير بأن يعلق لافتة في المكاتب كافة تقول: «يرجى من السادة الكرام ألا يتركوا مكاتبهم قبل وصولهم!». ولكن الثعلب العجوز كان في الواقع صارما في فرض النظام في وزارته التي شملت مديرية الشرطة. وبقدر ما كان يكره العساكر كان يكره الشرطة. حدث أن تخاصم مع أحد مديري الشرطة وأغلظ كليمنصو في الكلام معه. فاحتج قائلا: «ما هذا؟ أتعدني رجلا من السفهاء أو مجرد رجل غبي؟». فقال له: «يمكن للمرء أن يكون كليهما معا». وكأي فكاهي مدمنٍ الدعابة، هاجمه ذات يوم أحد الموظفين الفوضويين وأطلق عليه الرصاص. ولكنه نجا من الإصابة وتحطم زجاج النافذة فقط. ألقي القبض على الفوضوي الشاب وأحيل إلى المحاكمة. ولكنه أوعز بأن تكتفي العقوبة بتغريمه تكلفة الزجاج لا غير. تعجب القوم من قراره، فسألوه فقال: «هذا شاب مجنون». اكتفى القاضي بتغريمه ثمن ذلك وأطلق سراحه، فراح يهتف في القاعة «يحيا العدل!». سمع كليمنصو بذلك فضحك وقال: «ألم أقل لكم إنه مجنون!» العدالة في فرنسا!