العالم في عصرنا هذا يزداد فساداً، كل يوم، بل كل ساعة، حتى يخيّل لك أن العالم أصبح ملفوفاً بغلالة بل بغمامة من الفساد الكريه، ويخيّل إليك أنك تتنفس هواءً بل دخاناً كثيفاً مثقلاً بالفساد، يكاد يخنقك ويكتم أنفاسك، إن المجتمعات تغوص متعمّقة كل يوم في مستنقع الفساد الآسن، إنه يتغلغل تغلغل الحية الرقطاء، بين الأفراد والمجتمعات بل وحتى الدول. والعجيب أننا - أفراداً ومسئولين وإعلاماً - نتحدث عن الفساد كأنه مخلوق خرافي أتى من عالم آخر، أو كأنه كائن هلامي أتى من الفضاء، بينما حقيقة الأمر أن الفساد هو: رغبات بعضنا وأنانيتهم وأفعالهم ونياتهم السيئة، وصدق الله القائل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الروم 41. وإذا كان الفساد مصيبة كبيرة، فإن الرضا به والاستسلام له مصيبة أكبر، وهذا للأسف ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي، فقد ضربت جذور الفساد عميقاً في الأرض، شمخت شجرته عالية فوقها، وامتدت وشائجه إلى كل مؤسسة ومصلحة وهيئة ووزارة، حتى لا تستطيع أن تقضي مصلحة إلا برشوة أو محسوبية أو بطريقة غير شرعية، فضاع حق المتعففين وغير القادرين، وظهرت طبقات من الفاسدين والمفسدين، واغتنت فئات على حساب الفقراء ومصالح الدول. الفساد انتشر في عالمنا العربي والإسلامي حتى أوشك أن يكون شريكاً للناس في كل أمور حياتهم، وإذا كنا نجد للمفسدين في غير بلاد الإسلام عذراً، فكيف نجد له عذراً في بلاد الإسلام، فديننا يحرم الفساد تحريماً بيّناً، ويمنع الظلم منعاً قاطعاً، وسلفنا الصالح سادوا العالم بطهرهم وعفافهم وعدلهم، وكان مجتمعهم - انطلاقاً من تمسكهم بدينهم - مجتمعاً فاضلاً طاهراً معافى، مجتمع كان المسلمون فيه في تماسكهم وتوادهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، وكان المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، أما اليوم فإن المفسدين - وهم مسلمون أو هكذا يجب أن يكونوا - يأكلون لحم إخوانهم ويشربون دماءهم بل ويدقون عظامهم ويسنونها سناً، لا يرحمون مسكيناً ولا يعذرون فقيراً، ولا يتجاوزون عن صاحب حاجة. إن الفساد قد انتشر وعمّ، حتى جرى في الطرقات كمياه المواخير، وطفح وارتفع حتى غطى مباني كانت عالية وصروحاً كانت سامية وفاحت رائحته - ولا نقول حتى أزكمت الأنوف، بل نقول حتى اعتادتها الأنوف فما عادت تشمئز منها كثير من النفوس أو تعافها. إننا لا نقول إن دول العالم العربي هي وحدها التي ينتشر فيها الفساد، فالفساد أصبح سلعة عالمية على مستوى الأفراد كما على مستوى الدول، بل على مستوى القيادات الإدارية والمالية، فلا توجد دولة تخلو تماماً من الفساد، في عصر العولمة، فالفساد متغلغل في الدول الغنية مثلما هو منتشر في الدول الفقيرة، ففي تلك الدول الغنية المسماة متقدمة يبدأ فساد الساسة حتى قبل الجلوس على كرسي الحكم، فالشركات الكبرى لا تتورّع عن شراء ذمم السياسيين وذلك بالتبرع لتمويل الانتخابات وشراء الأصوات، وذلك لجني الثمار لاحقاً. لذا أصبح الفساد متفشياً ولا ينكره إلا مغالط ولا ينكر رؤيته إلا أعمى حتى أصبح الفاسدون هامات عالية يستهينون بالقوانين والأنظمة واللوائح والأعراف والأخلاق، ووصل الأمر بهم إلى تبادل مباشر أو غير مباشر للمنافع فيما بينهم، في سلسلة معقدة وسرية لا يعرفها إلا هؤلاء المتنفذون من عبيد الفساد في كل معاملاتهم المخالفة للقوانين حتى يصبح من الصعب، بل من المستحيل اكتشافها أحياناً وإخضاعها لطائلة القانون، كل هذا يحدث تحت مظلة استغلال النفوذ ولي عنق القوانين. منظمة الشفافية من مقرها بمدينة برلين الألمانية تصدر تقريراً سنوياً عن آفة الفساد وعلى المستوى الدولي والعربي بالطبع، وتقريرها للعام الماضي 2015 سجل 175 دولة من المنظومة الدولية، وكل عام تترقب ووسائل الإعلام ذلك التقرير لتتناوله بالدراسة والتحليل. وكالعادة فازت دول مثل الدنمارك بالمرتبة الأولى كدولة خالية إلى حد كبير من الفساد المالي والإداري، فنالت 92 درجة، وهي مثل حي لمعظم دول أوربا واليابان مثلاً في تعقب رؤوس الفساد. على الجانب الآخر في عالمنا العربي انفردت الدول ذات التوترات والنزاعات والصراعات الداخلية العراق واليمن وسوريا وليبيا والصومال بالمراكز الأولى كدول مستشرٍ في جسدها الفساد بل إن العراق تنهب من خزينته أموالاً سنوية تزيد على 40 مليار دولار. لا شك أن تقرير هذه المنظمة المهتمة بمكافحة الفساد جاء مخيباً للآمال، فالتقرير يؤكد عجز معظم الدول العربية عن اجتياز حاجز الـ 50 درجة المطلوبة لتأكيد النجاح في الحد من الفساد، الذي أصبح ظاهرة لا ينكرها أحد حتى إن النخب المسيطرة في دول الربيع العربي الذي على ذمة رئيسة الشرق الأوسط وإفريقيا بمنظمة الشفافية صاحبة التقرير غادة الزغير عملت تلك النخب على السيطرة على مقدرات تلك الدول، بل إنها أفسدت في تغيير إرادة الشعوب من خلال تزوير الانتخابات وتغييب الشفافية في المعاملات الحكومية. وإذا كانت المملكة والبحرين والأردن قد تقدمت لتبلغ المرتبة (55)، فإن الكويت نالت (67) والمغرب (80) ومصر (94) والجزائر (100) وهذا معناه أن هذه الدول لا بد من تشمير السواعد لشن حرب شعواء وتبني إجراءات صارمة لمكافحة غول الفساد الذي يترك أثره البليغ على النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة واختطاف الأموال العامة واختزال حقوق الناس والمجتمعات لتحقيق مكاسب شخصية. الفساد كلمة كريهة مقيتة بغيضة، تعافها النفس السوية ويكرهها الوجدان السليم، وتقشعر منها الجلود، فهي كلمة حبلى بكل السيئات، ولا تلد إلا المضرات والمهلكات، يجمع الأفراد والجماعات والدول على تجريمها والتشنيع بها، لأن الفساد إذا عشعش في مجتمع في ظل انعدام الأنظمة والقوانين واللوائح والشفافية هنا تهدر الأموال بشكل مباشر وغير مباشر دون رادع من دين أو قانون. وللأسف نجد أن بعض المسلمين قد انغمسوا في ما انغمس فيه الآخرون، بل إن بلاد العالم العربي تُعتبر من أكثر البلاد التي ينتشر فيها الفساد، وهذا ما تؤكده منظمة الشفافية الدولية التي تُصنف الدول العربية في تقاريرها كدول تحتل المراتب الأولى في الفساد، ومع هذا لم نسمع عن تقديم أي مسئول كبير في القطاعين العام والخاص للمحاكمة بتهمة الفساد الإداري أو المالي، لأن القوانين التي تجرّم الرشوة مثلاً لا تساوي أكثر من الحبر الذي كتبت به، وكما يقولون (من أمن العقوبة أساء الأدب). مقالات أخرى للكاتب القوة توقف اختزال العدل.. وهي سلطان السلام!! لعبة الأمم.. على أرض العرب أهل الشام بين مطرقة حرب التجويع وسندان أسلحة الدمار الدولة الفارسية.. الخطر المشهد العالمي.. يغلي كالمرجل!!