يظهر التفاعل والجدل على شبكات التواصل الاجتماعي أن الأردنيين (وربما يمكن تعميم الحالة عربياً) ما زالت تغلب عليهم بعد مئة سنة من الدولة الحديثة اهتمامات واتجاهات في التأييد والمعارضة لا علاقة لها بقيم الدول والمجتمعات الحديثة وعلاقاتها وتشكّلاتها وأولوياتها، كأنهم لا يرون أنفسهم مواطنين في الدولة التي يعملون في مؤسساتها وأسواقها، أو لا تربطهم بها ما يربط مواطني الدول الحديثة بالسلطات والمجتمعات والمصالح والأعمال. وفي الوقت نفسه فإنهم يشاركون فيها، هي التي أنشأتها الدولة الحديثة، ولكنهم في الوقت نفسه ليسوا منخرطين وفق القواعد الأساسية المنظمة للدول والمجتمعات الحديثة، قيم الحرية والعدالة والرابطة القانونية، والتجمع والتأييد والمعارضة وفق اتجاهات ادارة الموارد والضرائب والإنفاق العام ومصالح الطبقات والمدن، فلا هم مواطنو دولة حديثة ولا هم مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة. تحرك اهتمام المواطنين قضايا غير متعلقة بجوهر حياتهم وواجباتهم وعلاقاتهم مع الدولة والمجتمع، لا تقدم ولا تؤخر كثيراً، هي في أفضل ما يمكن وصفها اتجاهات ومواقف فردية مستمدة من مشاعر أو روابط أو اعتقادات لا علاقة لها بتنظيم الدولة والمجتمعات والأسواق، ولكن محاولات التجمع والعمل وفق القيم والمحركات الأساسية التي يقتضيها العقد الاجتماعي تشبه الطرق في الحديد البارد. وفي ذلك يمكن ملاحظة الخلل العميق في التشكل الاجتماعي حول الموارد والمدن والعلاقات مع السوق والسلطة وما ينشأ عنه من وعي وأولويات ودوافع وحوافز ومصالح، هي في محصلتها متوالية متواصلة من التغييب الذاتي الإرادي للمواطنة لدرجة الانفصال المخيف عن الواقع، وصعوبة تقترب من استحالة نشوء عقد اجتماعي ينظم حياة المواطنين وعلاقاتهم. ففي الوقت الذي تحرك الانتخابات العامة والتجمعات السياسية والفكرية والجدالات الإعلامية قضايا وروابط منفصلة عن الفكرة الأساسية المنشئة للانتخاب والتجمع مثل الروابط القرابية والجهوية والأفكار الدينية والتحرير والمقاومة (التي لا يريدها أحد) لم يكن ممكناً بناء تشكلات وجدالات مستمدة من الحريات والإصلاح والديموقراطية والفساد والعدالة الضريبية والجدل حول الموارد العامة والخدمات الأساسية وحمايتها وتطويرها اهتماماً واضحاً، ولم تساهم الجهود التي بذلت في جدل سياسي ونشوء تيارات سياسية واجتماعية تحاول مخاطبة المواطنين والتأثير على السياسات والمؤسسات، كأنها ليست سوى أفكار ومحاولات لحماية الفراشة المرقطة من الانقراض. التفاوت في الاهتمام والتفاعل بين القضايا يعكس بالطبع اتجاهات وعي الذات المنشئ لتقدير الأولويات والمصالح. لكنه في الأردن وعي يبعث على الحيرة والقلق، ذلك أنه ليس جدلاً بين المواطنين حول المواقف والأولويات يظهر فرقاً معقولاً أو يمكن تنظيمه في التنافس السياسي والانتخابي ولكنه يظهر فجوة هائلة بين المواطنين في رؤيتهم لمواطنتهم وعلاقتهم بالدولة وعلاقتهم ببعضهم بعضاً على نحو يجعل متعذراً إنشاء هوية جامعة تتجادل في ظلها الطبقات والمصالح والتيارات وتتشكل المدن والبلدات والمجتمعات. يصلح التطبيع حالة دراسية تطبيقية على الفكرة الواردة هنا، فالتطبيع يبدو في نظر أكثر المعارضين الأردنيين ليس سيئاً لأنه يضر بالاقتصاد الأردني، لكنه مرفوض كحالة وجدانية شخصية أو جمعية. وهنا تنشأ مفارقة لا يريد أن يعترف بها أصحابها الذين يريدون أن يجعلوا مشاعرهم وعواطفهم وذكرياتهم حالة وطنية لا يمكن مغادرتها، بل تحويلها إلى جزء من السياسة العامة والهوية والثقافة والتاريخ والفولكلور. مؤكد بالطبع أن الفلسطينيين يتعرضون للاحتلال والظلم والاضطهاد، ويجب التضامن معهم وتأييدهم ومساعدتهم في قضيتهم وسعيهم لاسترداد بلادهم وحقوقهم وكرامتهم، ولكن المسألة ببساطة أن الأردن ليس فلسطين، والأردنيين ليسوا فلسطينيين، وذلك منذ أعتبرت الجامعة العربية، من دون رغبة الأردن، منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وقد اعتبرت المقاومة الفلسطينية والعربية ذلك انتصاراً مهماً، ثم حين وقع ياسر عرفات بصفته قائد الفلسطينيين اتفاقية السلام والتسوية مع إسرائيل في ساحة البيت الأبيض وبشهادة ومباركة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وأكثر من ثلاثة آلاف سياسي وديبلوماسي من جميع أنحاء العالم، لم يعد الأردن فلسطين ولم تعد فلسطين الأردن، ولكنهما بلدان متجاوران ولكل بلد قيادته السياسية وشعبه ومواطنوه. وقد يكون صعباً على فئة من الأردنيين إدراك ذلك، لكن الحقيقة أن معاهدات وقعت، والمعاهدة تعني الموافقة على نتائج الحرب، وليس الإقرار في ضمائرالمتحاربين ومبادئهم بالحقوق. هي حروب وصراعات انتهت إلى هذه النتائج. وما يفعله اليوم معارضو التطبيع في الأردن ليس فقط وقف التطبيع ومكتسباته، فهذا أقل الخسائر، لكنهم يعطلون الحياة السياسية والعامة بانتظار حلّ للقضية الفلسطينية لا يبدو أنه قادم، وحتى لو جاء فإنه لن يعود على الاردنيين بجميع منابتهم وأصولهم بأثر مباشر، إذ لم تعد العودة إلى فسلطين واردة بالنسبة الى المتوطنين في الأردن في جميع الظروف والاحتمالات، لكنهم بانتظارهم الأبدي يحولون الجدل السياسي والانتخابي إلى هيمنة مطلقة على فئات اجتماعية حولت البرلمان إلى تركيبة من الجماعات الدينية والعشائر والأثرياء ثراء غامضاً، ثم يتحولون هم أنفسهم إلى مجاميع من الناس لم تعد لها علاقة بمكان أو مجتمعات. * كاتب أردني