تماماً كما كان موضوع الحراك العربي هو القضية المحورية التي سيطرت على الحوارات واللقاءات العربية المنظمة وتلك العفوية، الأكاديمية منها والاجتماعية، التي رافقت ذلك الحراك العربي والتداعيات التي تمخض عنها، والنتائج التي يولدها خلال الفترة بين 2011 - 2013، تستحوذ اليوم، ما أصبح يطلق عليه سايسبيكو الجديدة على نسبة عالية من النقاشات التي يعرفها الفضاء الفكري العربي. وكأية ظاهرة حوارية، تتفاوت مداخل تلك الحوارات بين العفوي المندفع، والموضوعي المتعقل، والأكاديمي المحافظ. هذا ما يلمسه المتابع للنقاشات السايسبيكية، إن جاز لنا النحت اللغوي. وفي لقاء ضم مجموعة من قدماء المجاهدين الحزبيين البحرينيين فرضت سايسبيكو الجديدة نفسها وبقوة على طاولة الحوار الذي جمع بين عناصر الاجماع المطلق، والخلاف الجزئي بين الحاضرين. كان الاجماع على القضايا التالية: 1. أن هناك ما يشبه الاتفاق الدولي على أن الوضع العربي، بما حمله من تطورات على الصعد الاقتصادية والسياسية لم يعد ملائماً لاستمرار العمل بقوانين سايسبيكو الأولى، باستثناء واحدة من اهم نتائجها، كما يقول منطق الدول العظمى، وهو استمرار وجود الكيان الصهيوني، ومن ثم تطابق مشروعات دفاع القوى الدولية عن مصالحها مع استمرار هذا الكيان المشوه، والمنافي لقوانين نشوء المجتمعات الإنسانية. وتأسيساً على ذلك تتمحور تلك المشروعات، وفي القلب منها المشروع الأمريكي للشرق الاوسط حول ضمان امن هذا الكيان واستمراره في الحياة، بغض النظر عن عدم شرعيته. 2. أن انتهاء مدة ملائمة سايسبيكو القديمة للتطورات التي عرفتها منطقة، ومن ثم نتائج خارطة جغرافيتها السياسية، لا تعني، بل تفرض، اتفاقاً دولياً يكون بديلاً للسابق، تتبناه القوى العالمية الأكثر استفادة من أي مشروع قادم، لكن ذلك يتطلب استعدادها للمشاركة في إعداده من جانب، والدفاع عنه من جانب آخر. 3. أنه بينما كانت القوى العربية التي شاركت، بدون علم، وبعفوية تقترب من السذاجة السياسية، قومية الجذور، وطنية الاتجاه، تتصدر واجهة العمل السياسي العربي اليوم، قوى مذهبية الانتماء، طائفية القيم. وعليه فبينما كان مقاومة الحضور العثماني، بكل ما تثيره تلك المقاومة العربية من جدل حول صحة مشروعاتها، تحمل في أحشائها نواة التقدم، تفقد القوى الطائفية العربية تلك النكهة التقدمية، بل وتصر على ان تنشر في حركتها سموم مشروع طائفي، لا يمكن إلا أن يدمر مستقبل المنطقة العربية من خلال تمزيق نسيجها الاجتماعي، وتفتيت قواها السياسية، واهدار مقوماتها الاقتصادية، في معارك اقتتاليه تصل أسبابها المعلنة إلى درجة العبثية السياسية. 4. أن القوى الثلاث المحلية الأكثر تنظيمياً، والأكثر تهيؤا لقطف ثمار أي مشروع قادم هي: إسرائيل، وإيران، والأكراد، دون أن يعني ذلك تطابق مشروعاتهم. لكنها، موضوعياً، أقوى القطع المحلية على لوحة شطرنج الصراعات الدولية الشرق أوسطية. ولابد التأكيد هنا على ان الحديث هنا يتناول موضوع الاستفادة من زاوية تقاطع المصالح وليس تطابقها. 5. أن الإسلام السياسي السني، بقواه المختلفة سيكون أكبر الخاسرين عند توزيع الحصص، او إعادة رسم خارطة المنطقة، نظراً لضعف بنيته التنظيمية الداخلية المحلية، وهشاشة تحالفاته السياسية، وخوار قواه الذاتية، باستثناء السيولة النقدية، التي لم تعد تحظى بالمكانة التي كانت تتمتع بها في النصف الثاني من القرن العشرين. 6. أن روسيا البوتينية، سيكون لها دور تتبعه حصة عند توزيع الكعكة الشرق أوسطية الجديدة تماماً كما كان لروسيا القيصرية حصة في توزيع المنطقة في سايسبيكو القديمة. وستتناسب الحصة الجديدة مع الحضور الروسي ليس المباشر فحسب، وإنما يتناسب والثقل الروسي يما يحمله من تحالف إقليمي ودولي. في ضوء هذه الصورة التي، رغم اختلاف الحاضرين على تفاصيلها الداخلية الصغيرة، كان هناك شبه إجماع أيضا على إطارها العام، وتضاريسها السياسية الرئيسة، بدأ البعض من المشاركين وضع سيناريوهات لمستقبل خارطة المنطقة العربية القادمة، فأخذت معالمها الرئيسة الصورة التالية: 1. دولة كردية في قلب منطقة الشرق الأوسط، تفرض نفسها على المحافل الدولية، بعد أن تنتزع اعترافاً محلياً يبرر تأسيسها، ولا يستطيع ان يقف في طريق فرض نفسها كحقيقة قائمة. 2. دولة شيعية تربطها مع إيران الشيعية علاقات وثيقة تنسجها من خلال الارتباط المذهبي الذي لن يسمح بأي تفتت داخل المؤسسة الشيعية، وسيحاول احتواء أية محاولة لبروز تيارات شيعية مناوئة، او حتى منافسة لدولة المركز. 3. دولة سنية، ربما تأخذ سحنة عربية، فيما سيتبقى من الكعكة، وهذه الدولة ما يزال بعض الخلاف ناشباً بين الأطراف الضالعة في التقسيم حول تحديد مذهب هذه الدولة ومرجعيتها الشرعية، وربما يتأجل الإعلان عنها حتى تصفى الخلافات المذهبية، وهي عملية ليست بالسهولة التي سيتم بها سيناريو إخراج الدولة الشيعية، نظراً لتعقيدات الوضع السني في هذه المرحلة. 4. كيان صهيوني قوي، يلاصقه دولة فلسطينية مهلهلة، تابعة له ولا تستطيع ان تعيش بدونه. وعند الحديث عن هذه السيناريوهات لا يعني، كما قال الحاضرون، انهم قابلون بها، أو موافقون عليها، لكنها ستفرض نفسها، كما يرى المشاركون في النقاش، لكونها الأكثر قابلية للتنفيذ في ظل موازين القوى القائمة، وفي ضوء ما يرشح من معلومات، وفي نطاق ما تفرزه الصراعات اليومية من نتائج. وبنفس المنهج التحليلي، فهي قابلة لبعض التحويرات في حال بروز عامل محلي مفاجئ يغير من موازين القوى، ويقلب طاولة المباحثات على أصحابها. كما انها لن تكون سرمدية، وطول عمرها رهن باستمرار فعل قوانين الظروف التي ولدتها. لكن طالما ان الفكر الطائفي والقوة الطائفية هما المسيطران، فمن الطبيعي أن تكون سايسبيكو الجديدة طائفية، مهما بلغت سماكة الطلاءات التجميلية التي تخفي وراءها البشاعة الطائفية التي ستطل بوجهها رغم أنف من يدعي أنه يحاربها أو يرفضها..