في طفولتنا نتعلق بمجتمعنا الصغير، من أسرة وأصدقاء المدرسة والأقارب، والقبيلة أو المجموعة وغيرها مما يشكل هوية أولية لنا، ونندمج داخل هذه الهوية ويصبح انتماؤنا الكلي لها، ذلك أننا وجدنا ذواتنا في هذا الوسط والمكان. ومن هنا تبدأ قصة الشخصية أو الذاتية أو الأنا. إن الإنسان ليكون، أو ليشعر، يحتاج لبناء شخصيته أو لنستخدم مرادفاً دقيقاً أكثر ألا وهو هويته، هذه الهوية تتبدل مع تبدل المكان والزمان والظروف، غير أن تبدل هذه الهوية لا يتم بالسهولة التي يتم بها تغير الظروف والأحوال. ومن هنا تبدأ قصة المعاناة النفسية، وتتشكل المشاعر القاهرة والآلام الصامتة التي يواجه المرء صعوبة في التعبير عنها مؤمناً بأنه لن يفهمه أحد ولن يشارك بؤسه أحد، فتعبير هويتي تتغير تعبير شاذ وغريب وغير مفهوم، حتى على المرء الذي يمر به. لعلك سمعت أو قرأت عبارات لأشخاص يقولون إنهم ما عادوا قادرين على فهم أنفسهم، وإنهم يمرون بمرحلة عصيبة يبدون فيها مضطربين ومشوشين ومحتارين. في الواقع هذا على الأرجح هو تبدل الهوية الأولية التي تكونت بالطفولة. من جهة مقابلة، المجتمع الكبير، المدينة والوطن، ومقر العمل والأندية الاجتماعية، والأندية الرياضية، الجامعات التي تخرجنا فيها، والألقاب والمناصب التي ننالها، تخلق هوية أخرى لنا، مختلفة كلياً عن سابقتها الهوية الأولية التي كونتنا في الطفولة. عندما نكبر ونعمل وننخرط في المجتمع وعاداته وتقاليده وقوانينه يتكون مفهوم جديد للهوية، (الهوية المجتمعية). مشكلة هذه الهوية، أننا مجبرون بطريقة أو أخرى على خلقها والانتماء لها لنستطيع أن نكون أفراداً فاعلين بالمجتمع، أي أنه لا مفر من أن تكبر وتصبح مسؤولاً وأن تتغير أفكارك وانتماءاتك الطفولية، ولكن هذه الهوية المجتمعية هشة جداً وغير متماسكة، جذورها تهزها الظروف المحيطة بك دون أن تملك أي وسيلة للدفاع عنها أو حمايتها من الأذى. إن الهوية المجتمعية دوماً مرهونة بحال المجتمع الذي تعيش داخله. على سبيل المثال، أفلست إحدى الشركات التي يعمل فيها أحمد، على سبيل المثال، وقامت الشركة بتسريح عدد كبير من موظفيها، فوجد أحمد نفسه فجأة عاطلاً عن العمل، تبدو البطالة هي المشكلة الرئيسية له، ولكن الحقيقة هي أنه فقد هويته التي ارتبطت بهذه الشركة التي يعمل فيها قرابة 10 سنوات. أحمد الذي فشل بالعثور على وظيفة تلائمه، لم يفشل في الحصول على فرصة عمل، لأن الفرص شحيحة، بل لأنه لم يجد ذاته في أي عمل آخر مما يجعله يفشل في أي وظيفة جديدة يحاول تقلدها. هنا تزعزعت هويته التي ربطها بشركته وتلاشت تدريجياً، ليعيش في حالة انطواء وانعزال وكآبة. وبالتالي تشع في داخله من جديد هويته الأولية تلك التي صنعها في الطفولة. يعود أحمد تدريجياً لبيته القديم، لأسرته، لأمه وأبيه وإخوته، يبدأ بالتواصل مع زملاء الدراسة وأقاربه وغيرها من الأمور التي كانت عالمه في طفولته. ما أحاول أن أقوله هنا: لا تنخدع بما صنعته وآمنت أنك من خلاله وجدت ذاتك وحققت أحلامك وصنعت عرشك. في الواقع، إن تلاشت كل هذه الإنجازات ستعود لجذورك، لأسرتك وإخوتك وكل من شاركوك سنين عمرك الأولى. حاول وسط تضخم ذاتك المجتمعية ألا تفقدهم، فلا أحد يدري إلى ماذا ستؤول إليه الأمور وكيف سيكون حالك في المستقبل. لا تتكبر أو تتخل يوماً عن أسرتك التي صنعتك، والتي ستكون خيارك الوحيد في أيامك السوداء. shaima.author@hotmail.com www.shaimaalmarzooqi.com