يبدو مصطلح «الانفجار» أكثر تمثيلاً للحوادث السورية منذ خمسة أعوام، أي منذ اندلاع ثورة السوريين، في منتصف الشهر الثالث من 2011. فالأمر لم يعد يقتصر على الصراع بين النظام والشعب، أو غالبية الشعب، ومن الخطأ النظر إليه على هذا النحو فقط، إذ لم نعد إزاء ثورة خالصة، كما أن الثورة ذاتها لم تعد تحتفظ ببراءتها الأولى. هكذا تم تخليق طبقات أخرى في حلبة الصراع في سورية، وعليها، وضمن ذلك يأتي الصراع بين الدول الفاعلة إقليمياً، لا سيما إيران وتركيا، والصراع بين الدول الكبرى، بخاصة روسيا والولايات المتحدة، وفوق هاتين الطبقتين المؤثرتين جداً ثمة الفرصة التي وجدتها المنظمات «الجهادية» المتطرفة، لا سيما «داعش» و»جبهة النصرة»، وأخواتهما، التي لا تُحسَب، ولا تَحسِب نفسها، على ثورة السوريين، من دون أن ننسى المداخلات المتضاربة لبعض الدول العربية، في هذا الاتجاه أو ذاك. وكانت الثورة حافظت على زخمها في العامين الأول والثاني، في فعالياتها الشعبية، وخطاباتها المتعلقة بالحرية والمساواة والديموقراطية، لكن هذا المسار شهد تراجعاً أو خبوّاً ملحوظاً في ما بعد لمصلحة الجماعات المسلحة، لا سيما بعد تعمّد النظام البطش بالمناطق الشعبية الحاضنة للثورة، بقصفها بالبراميل المتفجرة وبفرض الحصار المشدد عليها، لتدفيع سكانها أثماناً باهظة، وإجبارهم على الخضوع أو الرحيل. ومعلوم أن هذا الأمر تفاقم مع تعمّد الجماعات المسلحة، التي تتغطّى بالإسلام السياسي، إزاحة الناشطين المدنيين، و«الجيش الحر» أيضاً، من المشهد العام، لا سيما بعد فرضها هيمنتها على المناطق الخارجة عن سلطة النظام. والمشكلة في هذا الوضع أن «المناطق المحررة» لم تثبت نموذجها كبديل للنظام، بسبب ممارســات هذه الجماعات، التي عملت أيضاً على احتلال، أو تغيير، هوية الثورة، وإزاحة خطاباتها، الأولية والجمعية، الوطنية والديموقراطية. فوق كل ذلك فمصطلح الانفجار يفيد بأن مرحلة من تاريخ سورية المطموس، أو من تاريخ السوريين المحجوب، باتت مفتوحة على مصراعيها لبناء إجماعات جديدة، أو وطنية سورية جديدة، بعدما بات السـوريون يقفون إزاء أنفسهم، ويكتشفون بعضهم البعض، على اختلافاتهم وتعدديتهم، الدينية والاثنية، وبعد أن كانت الوطنية محصورة في الولاء والخضوع لنظام يعتبر سورية هذه خاصته أو ملكيته. مع كل ذلك، أي مع وجود مشكلات أخرى، وطبقات صراعية أخرى، ضمنها الدخول الروسي الفجّ على خط الصراع (وهو ما تم سحبه مؤخراً)، فالثورة تبقى بمثابة المعلم أو المحرض الأساسي في الانفجار السوري، على رغم فقدانها براءتها الأولى، وعيوبها ونواقصها، لأنها أول تجربة يعبّر فيها السوريون عن أنفسهم، ويطلعون فيها إلى الضوء، لامتلاك الفضاء العام، وأول مرة يفكّون عقدة ألسنتهم ويسمعون أصواتهم، ويكسرون مقولة «سورية الأسد» وإلى الأبد، ويتحررون من الخوف، ويشهرون توقهم للحرية والكرامة. لأجل كل ذلك تستحق أن يطلق عليها تسمية ثورة، ولا يقلل من ذلك عدم استطاعتها احتلال المشهد العام الظاهر، وذلك لأنها أخرجت السوريين من الصندوق المغلق إلى مسرح التاريخ، ولأنها تتوخّى إسقاط واحد من أكثر الأنظمة دموية وفساداً واستبداداً في العالم، فإذا لم تكن هذه ثورة فما هي الثورة إذن؟ والحال، فإنه في التجارب التاريخية العالمية لا يمكن الحديث إلا عن ثورة سياسية، أو عن ثورات الحرية، ذلك أن الثورات ذات الطابع الفكري أو العلمي أو التكنولوجي أو التي تسعى إلى تغييرات في طبيعة التركيبة الطبقية للمجتمع تحتاج إلى عقود من الزمن، وتتم بطريقة تدريجية سلمية وإن تخللتها لحظات عنيفة، بهذا القدر أو ذاك. فالثورات غير السياسية لا تتم بالعنف وحده، ولا بالطرق الانقلابية القسرية، وهذا ما يؤكده مؤرخو الثورات من اريك هوبزباوم (في كتابة عصر الثورات) إلى هنه ارنت (في كتابيها في الثورة وفي العنف) وكرين برنتن (في كتابه تشريح الثورات). وكل المزاعم التي هي غير ذلك نتاج أفكار رغبوية، أو نتاج أيديولوجيات، لأن الواقع لم يثبت ذلك. فكرين برنتن في كتابه المذكور، والذي شرّح فيه الثورات الأربع الإنكليزية والأميركية والفرنسية والروسية، يؤكد أن الثورات تحدث تغييراً سياسياً لكن الأوضاع، حتى مع التغيير السياسي، تعود إلى الخلف ليحدث التغيير بطريقة تدريجية وطبيعية، فيما تؤكد أرنت أن الحرية هي الهدف الأساس لأية ثورة. بكلام آخر، فإن ما تواجهه الثورة السورية من تحديات وتعقيدات، وما تعانيه من نواقص ومشكـــلات وانحرافات، لا يقلل من أهميتها في أنها فتـــحت تاريخاً جديداً ليس للسوريين فحسب، وإنمـــــا في المشرق العربي برمته، هذا على رغم أثمانها الباهظة، وغير المسبوقة، والأهوال التي اختبــــرها السوريون. في الواقع فما واجهته ثورة السوريين ليس غريباً، ولا فريداً، إذ سبق أن واجهتـــه معظم ثورات القرنين 19 و20. فالثورة الفــرنسية (1789)، مثلاً، كانت واجهت، أيضاً، تكالب الامبراطوريات الأوروبية، وقوى الإقطاع، التي جهدت لإعادة الملكية إلى فرنسا وقتها، كمـــا واجهت الردّة، أو النكوص، من الملكية إلى الامبراطورية مع نابليون بونابرت، بيد أنها على رغـــم كل ذلك رسّخت فكرتي الحرية والمساواة، أي أنهــا على رغم فشلها حينذاك، انتصرت على المستوى التاريخي، إذ نقلت إشعاعها إلى محيطها الأوروبي والعالمي. ثم إن فرنسا تغيرت ولم يعد بالإمكان العودة إلى الخلف، حتى مع نابليون الأول والثالث وحتى مع عودة الملكية. ثمة مؤشرات تفيد بأن السوريين لم ييأسوا، على رغم الأهوال والكوارث التي عاشوها، وهذا يتمثل في محاولتهم إعادة الاعتبار لثورتهم، ولخطاباتها الأولى، ولطابعها الشعبي، بعد أن تم فرض حالة من وقف القتل والقصف. هذا ما حدث في التظاهرات الشعبية التي شهدتها مختلف مناطق سورية، في الأيام الماضية، وفي نبذ الجماعات المتطرفة والرايات السوداء، ورفع علم الثورة. عد خمسة أعوام يبدو هذا كأنه بمثابة عودة الروح، أو كأن الثورة تستعيد هويتها وعافيتها.