يستغرب الكثيرون من بروز وتقدم المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب على منافسيه المرشحين الجمهوريين في السباق الانتخابي التمهيدي الجاري، والذي أثبتته نتائج انتخابات « الثلاثاء الكبير»، رغم تصريحاته وشعاراته المثيرة للجدل سواء كان ذلك على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غيره. فقد نادى ترامب ومن خلال خطاباته الانتخابية غريبة الطبع وأمام الملأ بغلق حدود أمريكا أمام المسلمين الوافدين وذلك حفاظا على أمن الأمريكيين وسلامتهم. كما نادى بإنشاء جدار عازل مع المكسيك لمنع السراق من التسلل» على حد قوله» على أن تدفع المكسيك ثمن تكاليف هذا الجدار!. خلقت هذه التصريحات وغيرها الكثير ردود أفعال مضادة اتسمت بالسخرية والاستنكار والغرابة من قبل شعوب وقادة المعمورة وأهمها تصريح بابا الفاتكان فرانسيس الذي قال»إن من يفكر ببناء جدار عازل بين البلدان بدل مد الجسور ليس بمسيحي». لم تتوقف أقوال ترامب عنصرية الطابع على الأجانب فحسب بل شملت الأمريكيين أنفسهم حينما لوّح بأن السود من الأمريكيين هم أشرس من البيض، ونسبة الجريمة والاعتداء كبيرة عندهم ! كما أنه يتفق مع استخدام التعذيب الجسدي للمتهمين إن اقتضت الضرورة!. رغم تطرف الخطاب الانتخابي عنده فهو مستمر بحصد أصوات الأمريكيين في الانتخابات الجارية اليوم، وهذا ما يدعو إلى فرصة تمحص ومراجعة في كنه العلّة وحيثياتها. فالسؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: ما سر نجاح هذا السياسي الساخر الساحر؟ ولماذا تنتخبه شريحة كبيرة من الأمريكيين رغم كل ما قاله وتبناه...؟ الجواب على هذا السؤال قد يتجلى بمعرفة الأمور والحقائق التالية: أولاً: إن الذي يحصل في أمريكا اليوم هو ليس حالة جديدة أو استثنائية تحصل في سجل الانتخابات في دول الغرب إنما هو مشهد تماثله مشاهد حصلت قبله إبان الانتخابات البلدية والتشريعية في العديد من دول أوربا خلال السنين الأخيرة. ففي فرنسا، على سبيل المثال وليس الحصر، حصل حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبين على المركز الأول في الانتخابات البلدية التي أجريت نهاية عام 2015م بينما لم تكن نظريات وشعارات هذا الحزب اليميني أقل عنصرية وخطورة من طروحات ترامب! كما فازت أحزاب يمينية متطرفة في دول أوربية غربية أخرى بنسبة أصوات كبيرة قد تصل الى 30 في المائة من أصوات الناخبين حيث كان لها حصة الأسد بين باقي الأحزاب الكلاسيكية. ففي بلجيكا فاز حزب « التحالف الفلاماني» وهو حزب يميني عنصري بقيادة بارت دويفير بأكبر نسبة للأصوات إبان الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في حزيران عام 2014م. بنفس الوتيرة حاز الحزب النمساوي اليميني الشعبي على نسبة 20 بالمائة من أصوات الناخبين. وهكذا فسلسلة الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوربا، التي فازت بنسب أصوات متصاعدة، كثيرة كالحزب اليميني الشعبي وكذلك التقدمي الدانماركي وحزب الشعب والحرية اليميني الهولندي والحزب القومي اليميني والبديل الألماني واليمين القومي البريطاني وغيرها الكثير.حتى في أوربا الشرقية برزت أحزاب متطرفة كحزب « أتاكا» البلغاري وحزب « جوبيك» المجري وغيرها. كل هذا يشير قطعا على أن حالة ترامب ليست استثنائية أو وحيدة في الغرب انما هي ظاهرة جديدة في دور التطور والنمو وان سمّاها البعض بـ»ظاهرة ترامب» إلاّ أنها موجودة سلفا! ثانياً: هذه الظاهرة ربما تكون ردة فعل منحرفة لفعل منحرف تجلت أبعاده بالعمليات الإرهابية المتكررة التي ارتكبها إرهابيو القاعدة وداعش باسم الإسلام مما خلق حالة من الخوف والاشمئزاز من الإسلام والمسلمين بشكل عام سميّت بحالة « الإسلام فوبيا» أي التخوف من الإسلام والمسلمين. هذه الكراهية أو حالة التخوف من المسلمين تتصاعد وتيرتها مع الزمن وبتكرار الأعمال الإرهابية في دول أوربا والتي كان آخرها المجزرة التي حصلت في فرنسا وراح ضحيتها 130 مواطنا فرنسيا. لقد لعبت الحرية الزائدة في دول أوربا الغربية والاسترخاء المستمر دورا في نشاطات الجهاديين والمتطرفين الإسلاميين، وهذا الترهل أدى الى تنامي البؤر الإرهابية في بعض الجاليات الإسلامية في الغرب كما بيّنته الأحداث الأخيرة في بلجيكا حيث تم اكتشاف العشرات من أعضاء تنظيم داعش في منطقة « مولينبيك» الواقعة في مركز بروكسل! ثالثا : تشكو دول الغرب بشكل عام من ضعف ووهن في منظومتها المالية والاقتصادية خصوصا بعد الأزمة المالية العالمية التي حصلت عام 2008م أي بعد أن أفلس البنك الأمريكي العملاق «ليمان بروذور» وتحول الى ثقب أسود كبير ابتلع الكثير من أموال الغرب والعالم، حتى وصلت الحالة المالية والاقتصادية لبعض الحكومات الأوربية الى حد الافلاس لولا تدارك الدول الغنية في دول الاتحاد الأوربي الموقف وقدمت جرعات منشطة وإسعافات أولية كي تبقى الدول المتهاوية على قيد الحياة ! أزمات المال والاقتصاد نسمع عنها كل يوم في اليونان وفي إسبانيا وفي البرتغال وإيرلندا وإيطاليا بل حتى في الدول الأوربية الغنية مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا! هذا الوضع المالي والاقتصادي المختنق وغير المستقر والذي تشحنه النسب المتزايدة من العاطلين عن العمل جعل بعض الأوربيين أو الغربيين بشكل عام يمتعضون من الأجانب حيث يعتقدون بأنهم ينافسونهم على لقمة العيش في بلدانهم وفي ظروف اقتصادية صعبة. رابعا: أعداد المهاجرين وعلى وجه الخصوص المسلمين منهم الى أوربا في تزايد وتصاعد مستمر، خصوصا بعد حروب أمريكا في أفغانستان والعراق وبعد نشوء « الربيع العربي» والحروب الأهلية الملحقة به. ففي الآونة الأخيرة استقبلت ألمانيا وحدها ما يقارب المليون لاجىء! هذا التزايد بأعداد المهاجرين يقابله تزايد ديمغرافي إسلامي محلي حيث إن معدلات الولادة عند المقيمين المسلمين الأجانب تفوق كثيرا معدلات الولادة في العائلات الأوربية نفسها، وهذا ما يعني أن الأوربيين يتناقصون والمسلمين يتكاثرون مع مرور الزمن! النمو السكاني الإسلامي المتزايد في أوربا أحدث حالة خوف وقلق من ظاهرة « أسلمة أوربا» التي خلقت ردود أفعال وهواجس عند البعض تمخض عنها بروز أحزاب متطرفة تنادي بإجراء ضوابط حاسمة توقف حيثيات هذه الحقيقة وتبعاتها . تبلورت هذه المخاوف وظهرت من خلال صناديق الاقتراع التي بيّنت صعودا مطردا في أسهم الأحزاب اليمينية والمتطرفة عرقيّا. خامسا : بعدما زالت الحدود بين دول أوربا الشرقية وأوربا الغربية طبقا لاتفاقية « شينغن» المعروفة أصبحت حركة الأفراد وانتقالهم من مكان الى آخر ومن بلد لآخر عملية سهلة وبدون قيود. هذا الأمر أدى الى ازدياد معدلات الجريمة الحاصلة في دول أوربا الغربية وأهمها جرائم السرقة وأخواتها مما خلق حالة من عدم الاستقرار وعدم الأمان لدى المواطن الغربي جعله ينظر الى الأجانب نظرة ترقب وشك، وقد زاد الطين بلّة التصرفات غير السويّة لبعض المراهقين والشباب من المهاجرين التي تمثلت بالاعتداءات والتحرشات الجنسيّة في بعض البلدان المضيفة. سادسا : يلعب الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي هذا اليوم دورا هاما في كشف تفاصيل الحقائق والاحداث، بل ربما يقوم بتضخيمها في بعض الأحيان مما يؤدي الى تحفيز مستمر وتحسس متواصل لدى المواطن الغربي الذي كثيرا ما يسمع بسلبيات الأجانب ومخاطر وجودهم. فراح إثر ذلك الكثيرون يتطلعون الى سياسات جديدة تتعامل مع طبيعة الواقع ومجريات الأحداث ويلغون تأييدهم للأحزاب الكلاسيكية التقليدية المعروفة لديهم. هذا يفسر تأثر البعض بالشعارات الملتهبة التي يرفعها السياسيون المتطرفون والتي تغازل أحساسيس الشارع وتستهويه. رغم كل هذه الأسباب فظاهرة ترامب، إن صح القول، ومهما بلغت قوتها حاليا لن تكون قادرة على حسم الموقف النهائي لصالحها لأنها لم تكسب ود الأغلبية بعد، فغالبية الغربيين لا يرون، وعلى الأقل في الوقت الحاضر، بأنه من المناسب أن يتسنم المتطرفون واليمينيون مقاليد الحكم في بلدانهم، حيث إن تبعات وتداعيات ذلك قد تكون وخيمة وقد تؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها. وهكذا ومهما صعد نجم ترامب في الانتخابات التمهيدية الجارية فليس من المتوقع أن يربح السباق النهائي ويصبح رئيساً لأمريكا بعد!. مقالات أخرى للكاتب