جاءت زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية مؤخرا إلى فرنسا في توقيت بالغ الأهمية، إذ قطع التفاهم الأمريكي الروسي شوطاً هاماً في الملف السوري تمثل في إعلان هدنة تضمنت وقف الأعمال العدائية بين المعارضة والنظام وإطلاق عملية سياسية من المقرر أن تستأنف في جنيف بعد أيام، كما جاءت بعد زيارة رئيس الوزراء التركي داوود أوغلو إلى طهران التي رشحت عن تفاهمات اقتصادية بين الطرفين مع استمرار الخلافات السياسية خاصة فيما يتعلق بالشأن السوري، إضافة إلى أنه سبقها اتصالات سياسية ولقاءات سعودية- روسية وتنسيق سعودي- تركي فيما يتعلق بمشاركة المملكة في عمليات عسكرية في سورية ضمن نطاق قوات التحالف، في حين ما زالت الإجراءات التي اتخذتها المملكة تجاه لبنان من وقف الهبة المقدرة بثلاثة مليار دولار لشراء سلاح فرنسي للجيش اللبناني رداً على اساءات حزب الله للمملكة تتفاعل في الطبقة السياسية اللبنانية. التحالف ضد الإرهاب المعلن في باريس أن الملفات التي ناقشها ولي العهد هي ملف مكافحة الإرهاب والملف السوري والملف اللبناني والملف الفلسطيني، وهي الملفات الأساسية التي تتمظهر فيها مشكلات المنطقة وطنياً واقليمياً ودولياً. ففي ملف مكافحة الإرهاب تظهر مشكلة التنظيمات الإرهابية المتطرفة مثل تنظيم داعش والقاعدة وجبهة النصرة، وهنا يوجد اختلاف بين المملكة من جهة وبعض حلفائها في تحديد الإرهاب والدول الراعية للإرهاب، إذ حذف تقرير سنوي صدر في ٢٦ فبراير الماضي عن مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، إيران وحزب الله اللبناني، من قائمة التحديات «الإرهابية» التي تواجه الولايات المتحدة. مشيراً الى أن سبب حذف إيران هو جهودها في محاربة تنظيم داعش بينما ذكر التقرير حزب الله مرة واحدة، وكان مدير الاستخبارات في تقرير سابق صدر عام ٢٠١٤ أدرج إيران وحزب الله ضمن قسم محاربة الإرهاب مؤكداً أنهما يهددان مصالح حلفاء الولايات المتحدة. جوهر الخلاف بين المملكة وبعض حلفائها لا يتعلق بتنظيم الدولة والقاعدة، فهذان التنظيمان إرهابيان حتماً وهما يهددان كل دول المنطقة، لكن المملكة ترى أن هناك وجهاً آخر للإرهاب، يتمثل بالأذرع الإيرانية مرتدية قفازات إسلامية شيعية، وهو ما عبرت عنه إيران على ألسنة مسؤوليها من أنها تسيطر على أربع عواصم عربية، سواء بشكل مباشر أو عبر منظمات شيعية تابعة لها، إلا أن هناك تغيرات طرأت على مواقف بعض الدول من هذه القضية إثر توقيع الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما يدفع المملكة للتحرك لتوضيح الحقائق لحلفائها، خاصة أن هناك رؤى غربية وأوروبية ترى في التوسع الإيراني خطراً عليها وأن مكافحة الإرهاب ليست حرباً ضد المكونات السنية في العالم العربي تقوم به قوى شيعية، وإنما نجاحها مرهون بدعم المكونات السنية المعتدلة لأنها الأقدر على مواجهة التطرف فيها، وترى أكثر من ذلك أن إشراك المكونات الشيعية على أسس طائفية قد يدعم التيارات الإرهابية المتطرفة أكثر مما يحد من نفوذها أو يقضي عليها. على أي حال صحيح أن ولي العهد، وهو وزير الداخلية أيضاً، التقى رئيس الحكومة الفرنسية، مانويل فالس وهو وزير داخلية سابق كما التقى وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف والمدير العام لجهاز الأمن الخارجي السيد برنار باجولي والمدير العام لجهاز الأمن الداخلي السيد باتريك كالفار، وذلك ضمن وفد ضم رئيس الاستخبارات العامة خالد حميدان ومسؤولين أمنيين آخرين، إلا أن موضوع مكافحة الإرهاب لم يتخذ طابع التعاون الأمني الصرف بل تعدى ذلك إلى مواجهته على الصعد السياسية والفكرية أيضا، وهو ما تجلى في البيان الختامي المشترك، وجاء فيه: «أعرب الجانبان أيضاً عن استعدادهما لمواصلة وتعزيز التعاون الثنائي الذي يرمي إلى مكافحة أسباب التطرف والعنصرية والطائفية، وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب والحد من ظاهرة العنف بجميع أشكاله، بما في ذلك العرقي والديني». وأكد الجانبان على أهمية الحد من العنف والتطرف من خلال العمل العميق على الأصعدة السياسية والفكرية والأمنية” خاصة وأن ولي العهد سبق أن وضع ونفذ استراتيجيات في مكافحة الإرهاب لا تقتصر على الجانب الأمني ومنها تأسيس مركز المناصحة. الطرفان لا يثقان في إيران فيما يتعلق بتغيرات السياسة الفرنسية في المنطقة بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني مؤخراً إليها، فقد أكد البيان الختامي على العلاقات الإستراتيجية والمشتركة بين البلدين، أعرب الجانبان فيه عن ارتياحهما للعلاقات الممتازة المتينة بين فرنسا والمملكة وتطورها على جميع الأصعدة: السياسية والأمنية والاقتصادية والشؤون المالية والتجارة والصناعة والتعليم والثقافة، في حين أكدت الصحافة الفرنسية أن العلاقات السياسية بين البلدين هي علاقات وثيقة كما تبينها وتيرة الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات وآخرها زيارة رئيس الوزراء الفرنسي في 13 تشرين الأول في العام الماضي، التي جاءت في سياق تأكيد قوة العلاقات السعودية الفرنسية وكذلك تقارب وجهات النظر بين البلدين بخصوص المسائل الإقليمية الهامة. مشيرة إلى أن زيارة هامة سعودية سبقتها للأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في حزيران الماضي عقدت خلالها صفقات هامة بين البلدين، اقتصادية وسياسية أيضاً. وتطرقت الصحافة الفرنسية إلى هيئة مشتركة يرأسها رئيس الوزراء الفرنسي والأمير محمد بن سلمان، وهي هيئة جاء تشكيلها عقب زيارة الرئيس الفرنسي للرياض بين الرابع والخامس من أيار العام الماضي، كان فيها الرئيس الفرنسي «أول» ضيف شرف لاجتماع قمة لمجلس التعاون الخليجي، الذي ناقش قضايا منطقة الشرق الأوسط الهامة، من اليمن إلى سوريا والعراق والاتفاق النووي مع إيران والإرهاب. وكذلك حللت الصحافة الفرنسية أسباب العلاقات القوية بين البلدين وعزتها إلى حرص المملكة على بناء تحالفات وثيقة كما أن هناك سببا آخر وهو يأتي في سياق التردد الأمريكي أحياناً بسبب تناقض مصالح الولايات المتحدة مع مصالح السعودية كما ظهر في الحرب العراقية مثلاً، بدءاً من حرب الولايات المتحدة على العراق إلى طريقة إخلاء الولايات المتحدة الساحة العراقية للإيرانيين بالرغم من تحذيرات السعودية. وكذلك الاتفاق الذي جرى في منتصف العام الفائت بخصوص السلاح النووي الإيراني الذي صاغت الولايات المتحدة معالمه دون الأخذ فعلاً بمتطلبات دول الخليج، حيث كانت فرنسا والسعودية متفقتين حول ضعف الثقة بإيران، وعدم تضمين الاتفاق ما يكفي من الشروط الرادعة لامتلاك إيران للسلاح النووي في المستقبل. ويضاف إلى كل هذا، عدم وجود سياسة أوروبية خارجية متفق عليها بين الدول الاتحاد الأوروبي، ما يجعل فرنسا من أكثر الدول التي يمكن الاعتماد عليها، خاصة وأن لفرنسا مصالح حيوية في منطقة الخليج، اقتصادية وسياسية، والسعودية هي من أكثر دول المنطقة استقراراً، وتتفق فرنسا مع السعودية في وجهات النظر على معظم قضايا المنطقة، ولها طموح في علاقات وثيقة متصاعدة مع المملكة. سوريا.. حجر الزاوية وفيما يتعلق بالملف السوري، اتضح التطابق بين الجانبين السعودي والفرنسي في الموقف والرؤية، فالجانبان يريان أن الحل يمر حتماً بعملية سياسية لا مكان للأسد فيها، وهو موقف تختلف فيه فرنسا مع روسيا وإيران، وهما متفقان على دعم الهيئة العليا للتفاوض، وعلى تأييد وقف الأعمال القتالية مشددين أن المجموعات التي سماها مجلس الأمن فقط هي المستثناة من الهدنة، ومؤكدين على ضرورة وصول المساعدات الإنسانية الحرة وغير المحدودة والفورية، وفقاً للقانون الدولي، لمساعدة جميع السوريين. ويبدو أن هذا الملف هو حجر زاوية في العلاقات السعودية الفرنسية بحسب بعض التحليلات في الصحافة الفرنسية، فالمملكة سعت لحشد الحلفاء والأصدقاء، وحاولت بناء جسور مع روسيا الاتحادية، لكنها رغم إيجابيتها إلى حد ما، إلا أنها بقيت محدودة عند نقطة ما بسبب خلافات في المواقف خاصة في الملف السوري، وكذلك بسبب علاقات روسيا مع إيران التي تربطها بها علاقة جوار ومصالح جيوسياسية وهذا ما يجعل فرنسا مرشحة لأن تحظى بمكانة خاصة في علاقات السعودية، وإن كان معروفاً أن فرنسا ستحاول التقرب من إيران لأسباب اقتصادية، لكن عند موازنة فرنسا بين مصالحها مع دول الخليج وعلى رأسهم السعودية وإيران فستميل الكفة للطرف الأول خاصة وأن فرنسا تختلف مع إيران سياسياً في العديد من الملفات وخاصة الملف السوري. لبنان وفلسطين.. دعم متبادل أما في الملف اللبناني فقد أبدى الفرنسيون تفهماً لأسباب القرار السعودي بوقف الهبة للبنان، وأكدوا استعدادهم لتسليم صفقة الأسلحة للمملكة، رغم إبدائهم بعض التحفظات النابعة من حرصهم على مصالح المملكة وخشيتهم من اتباع إيران سياسة ملء الفراغ الذي قد يحدثه تراجع الدور السعودي في لبنان. وقد صرح وزير الخارجية عادل الجبير في مؤتمر صحفي في باريس قائلاً: لم نفسخ العقد. سيتم تنفيذه لكن الزبون سيكون الجيش السعودي، وأضاف: قررنا وقف تسليم معدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار للجيش اللبناني وتحويلها إلى الجيش السعودي. ومع ذلك اتفق الطرفان على ضرورة تفعيل عمل مؤسسات الدولة اللبنانية والأجهزة الامنية وانتخاب رئيس للجمهورية بأسرع ما يمكن. وبالنسبة للملف الفلسطيني، تراهن الديبلوماسية الفرنسية على علاقتها مع المملكة للمساعدة في إعادة إطلاق مسار السلام الفلسطيني-الإسرائيلي المتوقف منذ سنوات، خاصة أن فرنسا تعمل على الدعوة إلى مؤتمر موسع في باريس الشهر المقبل تحضيراً لمبادرتها، وأكد البيان الختامي على ضرورة استئناف عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وأعربت المملكة العربية السعودية عن دعمها للمبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي حول هذا الموضوع، وأكد الجانبان على أهمية استقرار الوضع في المنطقة الذي يؤثر على استعادة الأمن والاستقرار في العالم والشرق الأوسط بشكل خاص. وبحسب بعض المصادر الديبلوماسية، تحاول فرنسا استعادة دورها في المنطقة، خاصة بعد أن أرسلت حاملة طائراتها شارل ديغول إلى حوض المتوسط للمشاركة في الحرب على الإرهاب، كما أرست قوات خاصة إلى ليبيا، لكن الديبلوماسية الفرنسية تدرك جيداً أن بوابة الدخول إلى قلب المنطقة العربية والإسلامية هو القضية الفلسطينية، وأن إيجاد حل عادل ودائم لها هو مفتاح السلام والقضاء على الإرهاب، وفي هذا السياق تحاول البحث عن حلفاء يدعمون توجهاتها، وترى في الرياض شريكاً قوياً في مشروعها خاصة أنها صاحبة المبادرة العربية في عام ٢٠٠٢ التي تبنتها الجامعة العربية. نجاح تثبته المصالح ويدعمه التاريخ على أية حال نجاح زيارة ولي العهد إلى فرنسا يجد تفسيره الآني في شبكة المصالح التي تربط البلدين أما التفسير الأعمق فيعود إلى الأسس الراسخة وتاريخ العلاقات السعودية الفرنسية التي بدأت عام 1841 عندما أقامت فرنسا قنصلية لها في جدة. وعقدت بين الطرفين أول معاهدة تفاهم عام 1931، ليعين أول سفير للسعودية في فرنسا عام 1939. وفي عام 1963 تم توقيع اتفاقية تعاون ثقافي وفني بين البلدين. وجرت زيارات متبادلة على أعلى المستويات بين البلدين، بدأت بالاجتماع التاريخي بين الملك فيصل والرئيس ديغول عام 1967 في باريس. وزار السعودية كل رؤساء الجمهورية الفرنسية من ديستان إلى ميتران فشيراك وساركوزي وهولاند في عام 2015، وزار باريس كل من الملوك فيصل وفهد وعبدالله. وكانت الدوافع الرئيسية لهذه الزيارات هي سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى. إضافة إلى ذلك، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2014 قيمة 11 مليار دولار، أي بزيادة 1.6 مليار دولار عما كانت عليه في عام 2013. ومن المفترض أن يزيد عن ذلك بكثير في عام 2015 وفقاً للاتفاقيات الموقعة بين البلدين. ولكن التبادل التجاري بين البلدين كان لصالح السعودية في عام 2013 نتيجة اعتماد فرنسا على البترول السعودي، خاصة بعد المشاكل التي تعاني منها ليبيا والمقاطعة التي كانت مفروضة على إيران. كما أن فرنسا هي البلد الثالث في الاستثمار في السعودية بمخزون استثمار أجنبي مباشر يزيد على 15 مليار دولار. وفي غير القطاع البترولي فهناك اتفاقيات بين البلدين في مجالات قطارات النقل السريع والطاقة النووية للاستخدامات السلمية، والسلاح. إضافة إلى المنتجات الفاخرة ومواد التجميل، والمواد الغذائية وتجهيزات الاتصالات. وكذلك تمويل صفقة أسلحة ومعدات لصالح الجيش اللبناني في العام الفائت بمبلغ ثلاثة مليارات دولار، كما يتجلى التعاون الثقافي بين البلدين في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي، خاصة بعد أن خصصت السعودية جزءاً كبيراً من ميزانيتها العامة للتعليم الذي يحوز على ربع الإنفاق العام. فمثلاً، منذ عام 2005، وفد إلى فرنسا أكثر من 300 طالب سعودي لدراسة الطب العام أو للتخصص في المجالات الطبية، إضافة إلى طلاب آخرين يتوزعون على مجمل الاختصاصات الجامعية ومختلف الجامعات الفرنسية. كما قررت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تطوير تعليم اللغة الفرنسية المهنية في قطاع السياحة. وهناك تعاون في البحث العلمي بين مخابر سعودية وفرنسية في مجالات الزراعة والتقنيات الحيوية والتقنيات النانوية، وكذلك اتفاقات بين البلدين تشمل التنقيب عن الآثار ودراسة النقوش. وأخيراً كشفت الزيارة عن حرص البلدين على تمتين علاقاتهما، وتجلى ذلك بتقليد الرئيس الفرنسي وسام جوقة الشرف لولي العهد، وكان الملك عبدالله قد قلد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عام ٢٠١٢ قلادة الملك عبدالعزيز، وهذه الأوسمة المتبادلة هي رسائل تقدير وود واحترام واعتراف بالإنجازات كما أنها تعبير عن رغبة المملكة وفرنسا برفع سوية العلاقات بينهما إلى مستوى أعلى، تحقيقاً لتطلعات البلدين.