لا أدري لماذا قال والدي يرحمه الله لي يوماً: يا وليدي ما تقدر على هوى محرق فقد كنت صغيراً وفي المرحلة الابتدائية عندما كنت في كل أسبوع، وتحديداً يوم الخميس بعد انتهاء اليوم المدرسي، أقف عند مركز شرطة البديع بانتظار الباص الخشبي الذي ينقلنا من البديع مروراً بخط سيره على شارع البديع وهو يتوقف عند كل قرية من قرى هذا الشارع، ويأتي ركاب، رجال ونساء وشباب وشابات وأطفال إلى أن يقف في محطة الباصات بالمنامة إلى الغرب من بلدية المنامة، وهناك أتحول إلى الباص الذي ينقلنا إلى محطة باصات المحرق، لأنتظر بعدها الباص الذي ينقلنا إلى الحد، ولكي يكتمل باص الحد الذي يمر بقرى شمال المحرق ابتداءً من البسيتين إلى الدير وسماهيج فقلالي يأخذ وقتاً، وكانت تتاح لي الفرصة للتجول في سوق المحرق القديم حيث سوق السمك، وسوق اللحم، وسوق الخضرة، وحلويات شويطر، وباعة العنبري والأقبيض، ووجوه تصادفها تشع طيبة ومحبة، ورغم تلاصق المحلات في القيصرية فلا تجد إلا الهدوء والسكينة والدعة، ويختلط الناس فهذا مشترٍ وذاك بائع، وهذا متجول، ومن يومها وأنا أعشق المحرق، وكنت أمر على الأهل في حالة أبي ماهر بيت الخال أحمد بن علي الذوادي، وبيت عبدالرحمن بن علي الذوادي، وألعب مع أولادهم وأحياناً أبيت في الحالة أو في شمال المحرق، حيث بيوت أقرباء جدتي لأمي فاطمة يرحمها الله. كان الذهاب أسبوعياً إلى الحد بمثابة الفرصة لأكون قريباً من المحرق الأرض، والمحرق الناس الطيبين وكان سهلاً أن تتعرف على الناس، وسهلاً أن تتعامل مع من هم في السوق، فعلى قدر ما عندك من نقود تشتري ما ترغب فيه، وتوثقت علاقتي فيما بعد بالمحرقيين أصدقاء الدراسة الجامعية، وأصدقاء المهنة، وأصدقاء الفن والثقافة وتعلقنا بالأغاني الرائعة من كلمات معالي الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة حفظه الله ورعاه وهو يتغنى بالمحرق من خلال كلمات أغنيته ولهان يا محرق كما عشقنا أساطين الطرب الشعبي من أبناء المحرق، وكنا ونحن صغار نستمع إلى تسجيلاتهم في مقاهي المحرق التي لم نكن من روادها ولكننا كنا مشدوهين لرؤية الناس فيها وهم يتنافسون على لعبتي الدامة، والكيرم، إلى أن تم عرض فيلم جميلة بوحيرد في سينما المحرق فجاءت أفواج من البحرينيين لمشاهدة هذا الفيلم. وبعد ذلك أتيحت لنا الفرصة لمشاهدة المباريات على استاد المحرق، وحتى المنافسات الأخيرة بين المدارس، حيث كانت تجري التصفيات النهائية بين مدارس البحرين في مختلف اللعبات على الإستاد الرياضي بالمحرق. في المحرق تتداخل الفرجان، وكان من الصعب على زائر المحرق لأول مرة من أبناء البحرين أن يميز فريج عن فريج ولكن المحرقيين يميزون بشكل دقيق الفرجان، ونحن من غير أهل المحرق نقسم المحرق بين شمال وجنوب وشرق وغرب، إلى أن توثقت صلتنا بالمحرق فأصبحنا نميز فريج عن فريج وإن كنا قطعاً نعتبرهم جميعاً بدون استثناء أهل المحرق. ومع تقدم العمر تذكرت قول الوالد يرحمه الله يا وليدي ما تقدر على هوى محرق وفعلاً كلما اقتربت من المحرق ازددت عشقاً وحباً، ولا غرابة أن تكون متيماً ودائماً تشعر في قرارة نفسك أن هناك سحراً في المحرق لا تستطيع مغالبته، وقد أهداني الشاعر الغنائي المبدع إبراهيم عبدالكريم الأنصاري مؤخراً قصيدته المعنونة صوت المحرق وهو يروي لحظات طفولته وصباه وشبابه، وتعلقه بمفردات الفريج والألعاب، ويرسم صورة لزمن جميل عاشه هو وأترابه في المحرق حيث يقول: يا المحرق... يا بيت الروح.. ونبض القلب ودنيا من الرضا.. وإحساس يا سدرة، حوشنا وطيور ترفرف بالمحبة، وفيﱠ... يضريﱠ الناس ياكون الذكرى والأيام.. وألعابي خشيشه.. وقيس.. وقلينه ودبيج أطفال تتسابق.. وأميمة تنادي أحمد وتسقينا.. قطيرة ماي وأنا أضحك.. وأتسلى مع أصحابي يالمحرق... يا سكة تمشي في أعماقي يا صوت نهام في سهدة ليل ودحة ماي... تساسر لهفة أشواقي يا ماي العين وروح الروح.. ودمي انتي أمي... وفي الحشا نخلة وجذور وفي الضمير ذات ومعزة وطيب من عطر الجدود يسري في الروح والفؤاد أهل المحرق يتعلقون ويحبون فرجان وسكيك المحرق، كما يتعلقون ويعشقون ويحبون وطنهم البحرين، والمحرق يحبها أيضا جميع أهل البحرين الخيرين والطيبين، كما يعشقها أشقاؤنا من الخليج العربي، بل إن أي مواطن عربي أو أجنبي يأتي إلينا يشعر بدفء أهل البحرين وأهل المحرق، فلا عجب أن يجمع الكثير على حب البحرين، ونحن في الغربة نستمع إلى الكثير من الإطراء في حق البحرين وأهلها وهذا يشعرنا بالفخر والاعتزاز، فليس لدينا شيء أغلى من الوطن، ومن حقنا أن نتباهى بهذه المعزة التي يكنها الآخرون لبلادنا، تظل المحرق، وكذا مدننا وقرانا تعكس طيبة وخصال وشمائل أهل البحرين، فكل ناحية وفريج في كل قرية ومدينة يذكرنا بطفولتنا وصبانا وشبابنا ومدارس كنا ندرس فيها، وملاعب كنا نتبارى على أرضها وكل عيون وبحر كنا نسبح فيه، وكل مساحة نلتقي بها لنفرح بالعيد ونلبس الجديد، ويظل الوطن بمجمله يعيش في وجداننا ويملك علينا مشاعرنا وندين له بالفضل والمنة.. وعلى الخير والمحبة نلتقي