قد نجد من حين لآخر أن بعض المجرمين يفلتون من العقوبة بعد أن ينجح محاموهم في إقناع المحكمة بإصابتهم بمرض نفسي فينسبون إلى الفئة غير المسؤولة عن تصرفاتها. قد يظن بعض الناس أن احتيال المحامين لتبرئة موكليهم، بادعاء إصابتهم بالمرض النفسي حدث معاصر ظهر في هذا الزمان الذي عرف فيه علم النفس وتعددت فيه الأمراض النفسية وشخصت أعراضها، لكن الحقيقة غير ذلك، فالاحتيال بادعاء المرض النفسي للإفلات من العقوبة، أمر معروف منذ القديم، هذه الحيلة عتيقة مورست منذ قرون بعيدة. في العقد الفريد نقرأ أخبارا كثيرة عن أشخاص نجوا من العقوبة بعد أن تظاهروا بالجنون، فقد اعتاد بعض الذين يرتكبون أفعالا يعاقب عليها القانون أن يدعوا الجنون متى قبض عليهم وشعروا أنهم أسقط في أيديهم، فلا يجدون وسيلة للإفلات سوى التظاهر بأنهم (ممرورون)، والممرور من أصابته المرة ومتى غلبت عليه صار يهذي، وهي حالة تعد أخف درجة من الجنون. من ذلك ما يروى من أن رجلا ادعى النبوة أيام المهدي، فلما أخذ وأدخل على المهدي، أسقط في يده وأدرك أنه مقتول لا محالة، فأخذ يتظاهر بالجنون، سأله المهدي: أنت نبي؟ قال نعم. قال: وإلى من بعثت؟ قال: أو تركتموني أذهب إلى أحد؟ ساعة بعثت وضعتموني في الحبس! ورجل آخر ادعى النبوة أيضا فأتي به إلى حاكم البصرة مقيدا، ففعل كسابقه طلبا للنجاة، لما سأله الحاكم: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فإني مقيد! قال ويحك! من بعثك؟ قال أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف؟ والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم، الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها. فسأل الحاكم عنه فشهد عنده أنه ممرور فخلى سبيله. ادعاء الجنون، أو تلبس الجن، لم يكن وسيلة سهلة للتخلص من مغبة ما يرتكب من جرائم فحسب وإنما كان أيضا وسيلة لقول ما لا يقدر على قوله عاقل، فتحت ستار الجنون يمكن التعبير عما يراه الضمير حقا كما فعل بهلول مع الرشيد عندما قال له قد أمرنا بقضاء ديونك، فقال: «لا يقضى دين بدين، أردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك». عبارة لا يقولها مجنون.