تسلل ضوء الشمس من شقوق الباب الخشبي مثلما تتسلل مشاعر عاشق يطمح لمعرفة المزيد عن يوميات المعشوق. أفاقت (مليحة) على زقزقة العصافير المنتظمة فوق أغصان سدرة المنزل المباركة. نهضت تدريجيا كما ينهض القمر الرشيق. بدت من سدة الباب. التفتت نحو شباك مقابل ففر الكسل من جسدها الغض كما تفر الغزلان البرية من ضراوة متربص جائع. كانت الحنفية في ركن الحوش تتتابع من صنبورها قطرات في طشت نحاسي عتيق. رشت وجهها المغسول خلقة بالبهاء، الناضح بحيوية دافقة. حملت قفتها على رأسها واتجهت صوب الوادي وأجنحة الفراشات ترفرف حولها، والطرقات تراقص خطى العابرين إلى أودية مكتنزة بالخضرة والماء والعفة والنقاء. كان (ملحان) يستمع لوصايا أمه قبل أن يدحس الحمارة في جنبها وينطلق صوب المشرق لجمع ما تيسر من أعواد القرض اليابس. الطريق إلى الشرق يمر بجوار مزرعة أبي مليحة. ما إن حاذاها حتى تبسمت لكي تمنح روحه جرعة عاطفة تعينه على تحمل شقاء يوم كامل. مد يده في الخرج وسحب شتفة الخبزة والتمر الذي وضعته أمه زوادة له. اجتزأ منها ما تيسر وزاد عليها حبات تمر وناولها في خفر. من سند ركيب شغب صوت (يا كم لي أدرج على ذا الساق واحبي بتالروح، ما الشر ضاها علينا الحظ وبغير ضاها، ما دام ذا القلب نسمع له زفير وحنا، لاكويه بالنار لو كان يوصل الكي سميه). كانت القرى تحترف الغناء. لكل موسم موسيقاه، ولكل مناسبة رقصاتها، ولكل حرفة نشيدها، عند الحرث (يا الله اليوم يا ستار، ما للأستار عينه، وان بلينا بشب النار فاهل الأفعال بينه). البناؤون يرددون (يا الله على الراية تقوم حظنا، وتهب لنا يا الله دراج عالية) ويوم الحصاد وصرم أعواد القمح أو الذرة تتعالى أصوات الجموع من النساء والرجال (ما بقي الا الجميلة حقنا فيها، يا الله أنك تخلي من يخليها) ووقت الدياس تتفاعل المخلوقات مع (الليل هيا والنهار هيا، يا راقدا في فيحة الثريا). اليوم يتساءل أحد الطيبين: لماذا لم تعد القرى تغني زي زمان؟ علمي وسلامتكم.