التقيت صديقا قديما في صالة السفر وهو بملابس الإحرام وبرفقته والدته، ولما رآني بادرني بالسلام هاشّا باشّا ثم همس في أذن أمّه فإّذا بها تحييني بأحسن تحية وتقول ابني كثير الحديث عنك. رددت التحية ودعوت لها وله وبعد حوار قصير تخللته تعليقات مرحة من محمد وهو يلمّح إلى أمه كطفل مشاكس. ركبت طائرتي ولم تفارق مخيلتي علامات السعادة الشارقة على محيّا صديقي وهو يناكف أمّه بمودة اعرفها عنه كما اعرف توفيق الله له في برّها وصلتها حتى انه لا يغادر في سفر حتى يستأذنها وهو الرجل ذو المكان والمكانة. ارتحلت بي الذكريات إلى الطفولة البعيدة وكأني أرى أمي "عزيزة" رحمها الله أمامي وهي تكابد مشاق الحياة وشظف العيش كمعظم جيلها في قريتي الصغيرة. كانت أمي تستيقظ قبل صلاة الفجر مع بعض نساء القرية وتعبر معهن بطن الوادي الموحش في الظلام لجلب ماء الشرب من المعين الوحيد ويعدن بالقرب فوق ظهورهن. وبعد أن يقدمن طعام الإفطار البسيط قبل الشروق ينطلق الرجال للمزارع وتنشغل النساء لساعة أو نحوها للاهتمام بنظافة المنزل وإطعام وتسريح "الحلال" ومن ثم التوجه للمزارع لأداء مهام يتقاعس عنها أشداء الرجال اليوم وهكذا الحال صباح مساء. كانت أمي "عزيزة" تغمّدها الله برحمته في مواسم الاحتطاب أو حين الحاجة لجلب نوع معين من العلف "الحشائش" البعيدة جدا عن القرية تتواعد مع رفيقاتها للذهاب في دجى الليل لضمان إنهاء المهمة والعودة قبل أن "تحمى" الشمس وبمقدار حجم الحزم الكبيرة فوق تلك الأجساد النحيلة تتباعد أو تقترب المهمة التالية لذات المشوار الشاق. لم تكن أمي "عزيزة" تطلب من الدنيا الكثير فقد كان اقصى أمانيها أن تحج أو تعتمر وترى "الكعبة". وكانت عندما ترى قوافل سيارات الحجاج على الطريق الرئيس متّجهة نحو مكة تدعو الله أن ييسر لها أداء الفريضة ثم تداعب صغيرها الذي بالكاد جاوز الخامسة وتقول "الله اعلم" هل سيأتي اليوم الذي أكون فيه إلى جوارك في "مازدا حمراء" لتأخذني معك إلى مكة. وكان الصغير يرد على أمنيات أمّه وهو يضع شروط المحافظة على السيارة (الحلم)، وعدم أخذ شنطة الحديد الكبيرة لأنه لن يستطيع حملها. لم يتحقق الحلم في الدنيا يا "أمي" ولم يستطع الصغير أن يُسرِّع الأيام ليصحبك ويسعد بك إلى مكة كما يفعل "محمد" مع أمّه كل عام. يا رب كيف يعتذر الصغير عن دموعه التي عجزت أن تعالج نوبات سعال شرسة أحرقت صدر أمّه أمامه طيلة سنوات الطفولة، وكيف للصغير أن ينسى قسوة البلهارسيا وهي تقعد أمه وتعطّل وظائف جسدها الواهن في حين كانت "عزيزة" تنتظر الموت بوقار حتى فاضت روحها راضية مرضية. اللهم يا ملك الملوك انظر إلى أمي" عزيزة" نظرة رضا فإن من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذبه أبدا واسكنها الفردوس الأعلى من الجنة برحمتك. * مسارات قال ومضى: على صدر أمّي.. غفوت فنسيت همّي.