يبدو المشهد البريطاني والجدل الدائر حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي على شفا التغيير، فالموضوع الذي هيمن على اهتمامات الصحف ووسائل الإعلام البريطانية لشهور عدة، سيواصل هيمنته وربما بدرجة أعلى خلال الفترة المقبلة، ولكنها هيمنة مختلفة وأكثر إيجابية وتفهما لأهمية بقاء المملكة كعضو بارز في التكتل. وقد احتلت قضية الانسحاب أو البقاء في الاتحاد الأوروبي، مساحة واسعة من الاهتمامين العام والخاص في بريطانيا خلال العامين الماضيين، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام خاصة بعد إعلان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نيته بعقد استفتاء يقرر خلاله البريطانيون مصيرهم. لكن تعليقات دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي بأن زعماء الاتحاد الأوروبي أيدوا بالإجماع اتفاقا بين الاتحاد وبريطانيا، يمنح الأخيرة وفقا لتصريح رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وضعا خاصا في الاتحاد، يعني أن التيار المؤيد لفكرة البقاء قد أحرز تقدما ملحوظا على المطالبين بالخروج. فالاتفاق الجديد وفقا للمصادر البريطانية يتضمن تعطيلا لنفقات الرعاية الاجتماعية التي تقدمها بريطانيا للمهاجرين من مواطني الاتحاد لفترة تستمر سبع سنوات، كما يضع قيودا على المعونات التي تمنحها الحكومة البريطانية لأبناء المهاجرين الحاليين بدءا من عام 2020. اتفاق يصب بالطبع في مصلحة الحكومة البريطانية، والأهم أنه سيدفع رئيس الوزراء وعددا من كبار وزرائه إلى دعم استمرار عضوية لندن في الاتحاد، بعد أن وجدت مطالبه آذانا مصغية من الزعماء الأوروبيين. وحدد ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني أمس يوم 23 حزيران (يونيو) المقبل موعدا لإجراء استفتاء يحسم عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال ينظر إلى عضوية بريطانيا أو انسحابها من الاتحاد الأوروبي، باعتبارها قضية متعددة الزوايا يصعب حصرها في زاوية واحدة، ومع هذا يظل الشأن الاقتصادي والتداعيات التي ستصيب اقتصاد المملكة المتحدة، سواء قررت البقاء أو الانسحاب، مربط الفرس في الحوارات الدائرة الآن، سواء داخل أروقة الحكم البريطانية أو بين الأحزاب السياسة أو المضاربين في بورصة لندن أو المسؤولين والأعضاء في اتحادات المزارعين والصناعيين وداخل مجالس إدارات الشركات الكبرى والمؤسسات المالية البريطانية. فعندما نتحدث عن حجم التبادل التجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي فإننا نتحدث عن 400 مليار جنيه استرليني سنويا، أي ما يوازي نحو 49 في المائة إجمالي تجارة المملكة المتحدة الخارجية، فـ 45 في المائة من الصادرات البريطانية يتجه إلى بلدان الاتحاد بينما تستورد بريطانيا منها ما يقارب 53 في المائة من وارداتها. ويشير تقرير لمجلس العموم البريطاني (صدر الشهر الماضي) إلى أن هناك ثلاثة ملايين وظيفة عمل في بريطانيا ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالتصدير للاتحاد الأوروبي. وحول الدور الذي يقوم به المستثمرون الأوروبيون في البورصة البريطانية، الذين بلغت استثماراتهم عام 2014 ما يقارب 496 مليار جنيه استرليني في سوق الأسهم البريطاني أي نحو 48 في المائة من إجمالي المستثمرين الأجانب، فإن قرار البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه لا يعد فقط قرارا تاريخيا بل قرار مصيري يتعلق بقدرة بريطانيا الاقتصادية الراهنة والمستقبلية وبالتالي مكانتها بين الأمم. ويبدو الشعور في البورصة البريطانية الآن أكثر هدوء في التعامل مع تلك القضية، خاصة بعد أن صدرت تصريحات من قبل مؤسسات مالية بريطانية ضخمة ومرموقة بأن الخروج من عضوية الاتحاد يعني خسائر بالمليارات. ومع اختتام محادثات بروكسيل بين رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وقادة الاتحاد الأوروبي، والإعلان عن استعداد الدول للقبول بكثير من الإصلاحات التي تطالب بها بريطانيا لتظل عضوا في التكتل، أغلق مؤشر فوستي 100 في بورصة لندن على ارتفاع بنسبة 0.36 في المائة، وارتفعت قيمة الاسترليني في مواجهة الدولار بـ 0.03 في المائة. وأوضح لـ "لاقتصادية"، الدكتور مارك كيلي، الاستشاري البريطاني في قسم الشؤون الاقتصادية والمالية في الاتحاد الأوروبي، وأحد أبرز الكتاب المدافعين عن البقاء في الاتحاد، أن هناك تغييرا ولو طفيفا في موقف الشارع البريطاني الآن لمصلحة البقاء داخل أوروبا، وأحد الأسباب الرئيسة وراء ذلك، هو تلك التصريحات التي بدأت تصدر من قبل المؤسسات المالية الكبرى بأهمية عضويتنا. ويضيف كيلي، أن تصريحات مثل تلك التي صدرت أخيرا عن مجموعة "لويدز" المصرفية، بأن حجم خسائر قطاع التأمين ستبلغ نحو 30 مليار دولار، إذا خرجت لندن من عضوية الاتحاد، ونحن هنا نتحدث عن قطاع اقتصادي واحد ولكنه حيوي بالنسبة للاقتصاد البريطاني، لا شك أن مثل تلك التصريحات توجد شعورا لدى المساهمين في البورصة بخطورة دعم عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويضع بعض المختصين القضية في إطار أوسع، وهو مدى تأثير مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي في معدل النمو الاقتصادي؟. ميتشل كلارك عضو البرلمان الأوروبي يعتبر أن هناك مجازفة اقتصادية كبرى بالخروج من الاتحاد، ويشير لـ "الاقتصادية"، إلى أن الدراسات الرسمية تؤكد أن مغادرتنا الاتحاد تعني انخفاض النمو الاقتصادي بنحو 0.5 في المائة وتراجع الإنتاجية بـ 7 في المائة خلال الأعوام الـ 15 المقبلة، لأن الخروج من ناد يضم 28 دولة تعد من أغنى الدول في العالم وأكثرها ثراء يعني تقليص تجارتنا الخارجية. لكن الأمر لا يقف أيضا عند حدود التأثيرات التي ستصيب الاقتصاد البريطاني في علاقته الخارجية، بل إن هناك مخاوف جدية بأن تشهد التركيبة السياسية للمملكة المتحدة ذاتها تغيرات جذرية، قد تؤدي إلى تلاشي المنظومة الاقتصادية البريطانية في شكلها الراهن. وأوضح كلارك، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيؤدي حتما إلى تنامي الدعوات الانفصالية في اسكتلندا، إذ إن هناك رغبة قوية من قبل الاسكتلنديين بالبقاء أعضاء في الاتحاد، لأن ذلك يحقق مصالحهم الاقتصادية، وخروج اسكتلندا يعني أن المنظومة الاقتصادية البريطانية لن تعود كما هي، إذ سيتقلص اقتصاد المملكة المتحدة إلى اقتصاد "إنجليزي"، وهذا الاقتصاد الجديد سيكون ضعيفا لعديد من الأسباب، إذ إن السوق الداخلية سيكون حجمها أقل، وعلاقتنا الخارجية مع الاتحاد الأوروبي أضعف، كما أننا سنفتقد موارد الطاقة النفطية التي ستذهب في أغلبها إلى اسكتلندا، التي ستهيمن على بترول بحر الشمال، ولهذا فإن اختزال الصورة في خسائر مالية بسيطة سيتعرض لها الاقتصاد البريطاني، إذا تم التصويت لمصلحة مغادرة الاتحاد الأوروبي، تفكير يحتوي على التبسيط المخل وكثير من الخداع. وبالطبع لا يبدو المشهد أحادي التوجه، فهناك تيار قوي سواء في وسائل الإعلام البريطانية، أو حتى بين الأحزاب السياسية يدعو إلى مغادرة التكتل، والسبب باختصار أن ذلك أربح لبريطانيا، وعلى أساس أن أوروبا بحاجة إلى لندن أكثر من حاجة لندن إليها. الدكتور برين نيكلسون عضو حزب الاستقلال البريطاني وأحد أقطاب التيار الداعي إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يعتقد أن مستوى معيشة البريطانيين سيرتفع مع مغادرة الاتحاد. ويبدأ نيكلسون حديثه لـ "الاقتصادية"، بهجوم شرس على حكومة ديفيد كاميرون متهما إياها بعدم تقديم أرقام وإحصاءات واضحة للمواطنين حول الحجم الحقيقي للعلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي ولندن. ويقول نيكلسون، إن وسائل الإعلام البريطانية تصور للمواطنين أننا نستفيد من العلاقات التجارية مع الأوروبيين، وهذا غير صحيح ومبالغ فيه كثيرا، فالبيانات الرسمية تظهر أننا نستورد من أوروبا أكثر مما يستوردون منا، والعجز في الميزان التجاري معهم بلغ أرقاما قياسية عند 89 مليار استرليني، ونحن نشتري السيارات الألمانية والملابس الإيطالية والخضراوات الإسبانية، والنتيجة أن صناعتنا وزراعتنا في تلك القطاعات تتراجع. ويضيف نيكلسون، أن حجم صادراتنا للاتحاد الأوروبي انخفض من 62 في المائة عام 2006 إلى 47 في المائة الآن، وهذا يعني أن السلع البريطانية تجد لها أسواقا أفضل من أوروبا أغلبها طبعا في الاقتصادات الناشئة مثل تركيا وإندونيسيا أو الصين أو أسواق البلدان الخليجية المنتجة للنفط، ومن ثم "فالفزاعة" التي تستخدم لتخويف الشركات والمؤسسات البريطانية بأنها ستتعرض لخسائر ضخمة من جراء الانسحاب من عضوية الاتحاد غير دقيقة، فالعام الماضي فقط ورغم الأوضاع الاقتصادية التي تعانيها الأسواق الناشئة نمت صادراتنا معهم بنحو 2 في المائة، كما أن صادراتنا إلى الولايات المتحدة – أكبر اقتصاد في العالم – قفزت بنحو 27.1 في المائة لتصل إلى 47 مليار جنيه استرليني. ويواصل نيكلسون قائلا، إن الحكومة لا تتحدث عن التكلفة التي ندفعها من جراء عضويتنا في الاتحاد، فقد أسهمنا في عام 2015 بنحو 8.5 مليار جنيه استرليني في ميزانية الاتحاد الأوروبي، ويتوقع أن تراوح مساهمات بريطانيا بين 11.1 و7.9 مليار جنيه استرليني سنويا خلال الفترة من 2016 إلى 2020. وأشار نيكلسون إلى الدراسة التي أعدها معهد الشؤون الاقتصادية، التي أثبتت أن الخسائر التي نتعرض لها نتيجة عضويتنا في الاتحاد الأوروبي تراوح بين 3 و4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني، وأن القوانين البيروقراطية التي تصدر من بروكسل تكبدنا خسائر سنوية بنحو 33.3 مليار استرليني. ووفقا لأصحاب تلك الرؤية الرافضة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن الخروج من عضوية التكتل، يعني أن لندن ستتمتع بقدرة أكبر لعقد اتفاقيات تجارة حرة مع عديد من بلدان العالم، وهو ما لا تستطيع القيام به الآن نظر للقيود التي تكبلها من جراء عضويتها في الاتحاد الأوروبي. فيفي تايلور العضوة البارزة في حملة "فلنغادر الاتحاد" تعتبر أن انضمام لندن للاتحاد الأوروبي جعلها تتجاهل حلفاء أكثر أهمية بالنسبة لها، وفي مقدمتهم دول الكومنولث، وتقول لـ "الاقتصادية"، إن حجم التبادل التجاري بينا وبين بلدان الكومنولث الـ 53 لا يزال ضعيفا للغاية، فالنشاط الاقتصادي تركز خلال أربعة عقود على إيجاد جسور مشتركة مع أوروبا، وتجاهلنا علاقتنا التجارية مع الكومنولث. إلا أن الكثير من المختصين يشككون في إمكانية تحقيق ذلك الانتعاش مع بلدان الكومنولث إذا غادرت بريطانيا حديقة الاتحاد الأوروبي. آرثر كيلي الباحث المتخصص في العلاقات البريطانية مع بلدان الكومنولث يوضح لـ "الاقتصادية"، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ربما يعني تسريعا نسبيا في عقد اتفاقات جديدة بين لندن وبلدان الكومنولث، لكن بريطانيا لديها بالفعل اتفاقيات تجارة حرة مع 64 في المائة من بلدان الكومنولث، كما تتفاوض حاليا مع 26 في المائة منهم لعقد اتفاقيات تجارة حرة يتوقع أن تتم هذا العام. ويستدرك كيلي قائلا، إنه يجب أن نأخذ في الحسبان عددا من النقاط، وهى أن القدرة الاقتصادية لبلدان الكومنولث ككل أضعف من مثيلتها في الاتحاد الأوروبي، وأن خروج بريطانيا من التكتل، يعني أنها ستطلب تقريبا من ثلاثة أرباع دول الكومنولث، توقيع اتفاقيات تجارية كبديل لاتفاقيتها مع الاتحاد، وليس بالضروري أن توافق بلدان الكومنولث على ذلك، كما يتوقع أن تطلب تلك البلدان امتيازات خاصة في قضية الهجرة إلى المملكة المتحدة، مقابل توقيع اتفاقيات مع بريطانيا لتعويض الخسائر الناجمة عن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وأضاف كيلي، أنه بالنسبة لباقي أعضاء الكومنولث الذين لا تربطهم علاقات تجارة حرة معنا ليس هناك يقين قاطع بأنهم سيرغبون في ذلك، أو أن المفاوضات معهم ستكلل بالنجاح، كما أن تجارة بريطانيا مع بلدان الكومنولث تبلغ ربع حجم تجارتها مع الاتحاد الأوروبي، وبالطبع فإنه من المتوقع أن يؤدي خروج لندن من عضوية الاتحاد إلى تراجع تجارتها معه، ولكن كل تراجع في صادرات بريطانيا للاتحاد الأوروبي بنحو 10 في المائة سيتطلب من لندن زيادة صادراتها لبلدان الكومنولث بنحو 40 في المائة، وهناك شكوك كثيرة تحيط بإمكانية القيام بذلك. ووسط تلك الأجواء والبهجة التي تعم معسكر المؤيدين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، يصعب القول إن هذا الملف قد أغلق أو اقترب من نهايته، ولكنه سيظل بلا شك ملفا رئيسا في الحوارات البريطانية الداخلية حتى تظهر نتيجة الاستفتاء سواء بالبقاء أو المغادرة.