منعت الرقابة اللبنانية عرض فيلم «سبوتلايت» للمخرج الأميركي توم ماكارثي وموضوعه تحرش رجال دين كاثوليكيين بقاصرين. القرار قد لا يبدو صادماً في بلد كلبنان، يُعتبر الدين فيه من الخطوط الحمر، علماً أن العمل لاقى ترحيباً كبيراً في الغرب، ولم يصدر أي موقف معاد أو انتقادي تجاهه من الفاتيكان بل على العكس، إذ رحّب به إعلامه علناً. واللافت أن قرار المنع لن يثني محبي السينما من مشاهدة العمل الذي نال جائزة أفضل فيلم من «الجمعية الوطنية للنقّاد السينمائيين الأميركيين في نيويورك»، وبأقل من دولار. إذ بإمكان الراغب شراء نسخة مقرصنة من أي محل لبيع الأقراص المدمجة والمنتشرة بكثافة في غالبية المناطق. إذاً ما الجدوى من المنع إذا كان يمكن الحصول على الأعمال الممنوعة بسهولة، علماً أن قرارات المنع التي تتخذها الرقابة تُسلط الضوء على العمل، وتمنحه دعاية مجانية؟ تدور أحداث الفيلم حول فريق «سبوتلايت» الاستقصائي من صحيفة «بوسطن غلوب» الأميركية، المتخصص في متابعة قضايا شائكة وكشف حقيقتها بغض النظر عن المدة الزمنية المطلوبة. ولأهمية ما يفعلونه ممنوع عليهم الكشف عما يحققون فيه لأي شخص حتى لو كانت زوجة أو فرداً من العائلة أو صديقاً مقرباً. ومنذ سبعينات القرن الماضي، ثمة معلومات متداولة عن تحرش رجال دين بقاصرين، لكن أحداً لم يتحرك لمتابعة القضية. تحالف خفي بين الصحافة والسياسة والدين أنتج صمتاً رهيباً تجاه هذه القضية. وقد يكون هذا الصمت نابعاً من خوف مواجهة السلطة الدينية أو المساس بقدسيتها. لكن رئيس التحرير الجديد في «بوسطن غلوب» قرر المواجهة وإسقاط نظام الصمت لرفع نسبة القراء أولاً ومتابعة القضية التي كانت وصلت معلومات ووثائق عنها للصحيفة لكنها اختفت. ومع قرار الملاحقة، تبدأ أحداث الفيلم. الصحافيون الأربعة في الفريق ينتشرون في المدينة باحثين عن خيوط القضية والمتورطين والضحايا. ويبدو لافتاً النمط التشويقي الذي اتبعه توم ماكارثي في تتبع عناصر الفريق للقضية، والأبعاد النفسية التي أظهروها في التعاطي مع الضحايا. ونجح مخرج «الزائر» (2007) أن يقدم فيلماً مبنيّاً على وقائع حقيقية من دون الانحياز لأي جهة، مدعماً مشاهده بوثائق وأدلة حصل عليها من السلطات المعنية وحرصه على دقة المعلومات. ويظهر العمل مدى قدرة الصحافي في الغرب على تحصيل المعلومة. والسؤال هنا: هل مسموح الاطلاع على المستندات والوثائق في مؤسساتنا الدينية؟ الفيلم المرشح لست جوائز أوسكار، وشارك فيه مايكل كيتن وجون ستلاتري ومارك روفالو وستانلي توشي وبيلي كرودوب، قدّم نموذجاً مثالياً في العمل الاستقصائي الصحافي، وكيفية متابعة القضايا الحساسة، والنقاش واختلاف وجهات النظر بين أعضاء الفريق، علماً أن التحقيقات المنشورة أدت الى استقالة برنارد لوو كاردينال بوسطن عام 2002. وكما أظهر الفيلم معتــدى عليهم، صوّر معتدياً حاول تبرير ما فعله بأنه لـــم يكـــن مغتـصباً انما ما حصل نتيجة سوء ادارة ومشكلة في النظام الكنسي بأسره. النماذج المختلفة من الضحايا التي قدمها ماكارثي في تحفته السينمائية، أعطت صورة واضحة عما كان يحصل، فلم يكن هناك ضرورة للاستعانة بمشاهد حديثة أو إظهار فعل الجرم في الكنيسة، وهذا ما ابتعد عنه ماكارثي كي لا يغوص في الكلاشيهات أو إعادة تمثيل مشاهد، مفضلاً العمل على ما لديه من معلومات ووثائق. شخصيات الفيلم الكثيرة كانت عامل قوة بفضل تنوعها، وقُدّمت جميعها بشكل رائع مع عرض خلفية كل شخصية في الوقت المناسب، وأهداف كل منها من وراء العمل في هذا التحقيق الصحافي أو المساهمة فيه بأي شكل من أشكال المساعدة، وأيضاً أهداف الأشخاص إلى تعطيل هذا التحقيق، سواء من خلال تقديم معلومات منقوصة أو خاطئة أو حجب المعلومات تماماً. كما يقدّم الفيلم نقداً ذاتياً لعمل الصحيفة، التي وصلتها معلومات منذ أوائل التسعينات عن تورط رجال دين في القضية، لكنها لم تجرؤ على اتخاذ قرار المواجهة الى حين وصول رئيس تحرير يهودي من خارج المدينة. وركز المخرج على هوية القادم الجديد، لأن أحداً من القدامى المنتمين الى محيطهم لم يُقدم على هكذا قرار. العمل الذي ينتهي بنشر أسماء 90 متورطاً، نجح في خرق حرمة المؤسسة الدينية في بوسطن الأميركية، لكن هل توقفت الاعتداءات بعد ذلك؟ وتكمن أهمية الفيلم في عدم تطرقه الى الكنيسة فقط، بل الى الشرطة والهيئة التشريعية والسياسيين وهيكل السلطة في بوسطن. وبالتالي يغوص العمل في عمق المجتمع الأميركي، متناولاً قضية كبيرة لمعرفة أسرارها وخفايا الكنيسة الكاثوليكية. ويرى المخرج توم ماكارثي أن الفرصة سانحة اليوم لكشف وسائل الإعلام عن كثير من الأسرار، «لكن ذلك يبقى أمراً صعباً في الوقت ذاته». ويقول: «إنه الوقت الأفضل للغوص في قضايا الفساد. لأن الصحافة تقوم بدور خطير. ولكن الصحافيين هم مواطنون ولا يمكنهم حل المشكلات. يمكنهم التغريد حول موضوع ما ونشره على صفحاتهم في «فايسبوك»، ولكن هل يمكنهم التفرغ لأسابيع أو أشهر لمتابعة القضاء وعمل رجال الشرطة وإجراء المقابلات مع الناس؟ الأكيد لا. غالبية الناس لديهم وظائف معينة».