في القائمة المعتمدة التي تضم أسماء أفلام أورسون ويلز في ترتيب تاريخي لإنجازها، نجد أن الفيلم الأخير يحمل عنوان «تصوير عطيل»، ما يعني طبعاً أن هذا كان آخر شريط حققه ويلز، وكان ذلك في العام 1978، أي قبل رحيله بسبع سنوات. غير أننا، إذا أدركنا أن هذا الفيلم لم يكن عملاً مصوّراً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مجرد إعادة اشتغال، وتعليق من ويلز، على واحد من أول مشاريعه الناجحة، أي الفيلم الذي حققه أوائل سنوات الخمسين من القرن العشرين انطلاقاً من «عطيل» شكسبير، - وكان الفيلم الذي نال السعفة الذهبية في إحدى دورات «كان» معطياً المغرب، إذ كان ويلز صوّر فيلمه فيه، ذلك الانتصار السينمائي الكبير في المهرجان السينمائي العالمي ذاك -، إذا أدركنا هذا، سيصبح في إمكاننا أن نعتبر فيلماً آخر لويلز، فيلمه الأخير. وهذا الفيلم هو «لا شيء غير الحقيقة» الذي أخرجه الفنان الكبير في العام 1973، ليسجل به عودة الى وراء الكاميرا بعد غياب سبع سنوات. هل قلنا: «عودة الى وراء الكاميرا»؟ هذا القول ليس دقيقاً، ذلك أن «لا شيء غيرالحقيقة» هو بالأحرى فيلم توليف (مونتاج)، حققه ويلز انطلاقاً من أشرطة ومشاهد موجودة سلفاً، ومعظمها أتى به من أماكن لا علاقة له، هو، بها. > نعرف طبعاً أن ويلز كان يعتبر نفسه شكسبيرياً. وهو، من بين إرث شكسبير الفكري والعملي، كان يحفظ دائماً قاعدة تقول أنه قد تكون للمواد المتوافرة بين يديك أهمية مؤكدة... لكن الأهم منها، أن تعرف ما الذي تريد أن تفعل أو تقول عبر هذه المواد. وفي هذا الصدد، كان يحلو لويلز دائماً أن يضرب مثلاً واضحاً: إن معظم الحكايات، التاريخية أو المبتكرة، التي اشتغل عليها شكسبير، إنما أتت من مصادر أخرى، لا علاقة له بها. لكن عبقرية شكسبير وروعة فنه تكمنان في ما أنتجه انطلاقاً من تلك المواد... والدليل «هاملت». من هنا، في عودة الى «لا شيء غيرالحقيقة»، نجدنا أمام هذه القاعدة، ونفهم سر قوة هذا الفيلم، الذي جمع له صاحبه مشاهد وحكايات، ليعيد تجميعها والتعليق عليها بحيث صارت معاً كلاًّ متكاملاً، عملاً فنياً يقول ذاته، لكنه يقول في طريقه ذات الفنان كوصية له. > ينطلق أورسون ويلز في «لا شيء غيرالحقيقة» من فكرة بسيطة مستعارة من بيكاسو: «إن الفن كذبة، لكنها كذبة من دونها لا نفهم الحقيقة». وحول الحقيقة والكذب تدور حلقات هذا الفيلم المتتابعة. لكن قبل التوقّف عندها، لا بأس من الإشارة الى أن البداية كانت في لقطات لويلز واقفاً في محطة للقطار كي يصوّره زميله الفرنسي فرنسوا ريشنباخ كجزء من تحقيق عن ويلز يصور لحساب التلفزة الفرنسية. وفي تلك اللقطات، يتوجّه ويلز الى المتفرجين معلناً أنه طوال الساعة التالية سيقول كل الحقائق التي يعرفها حول المدعو المير دي هوري. والمير هذا مهاجر هنغاري كان يعيش في ذلك الحين منطوياً على نفسه وتاريخه في إيبزا الإسبانية، بعدما وصلت شهرته الآفاق بصفته «أعظم مزور للوحات الفنية في تاريخ البشرية»، حيث من المعروف أن اللوحات التي رسمها مقلداً فيها بيكاسو وبراك وماتيس وموديلياني، نالت شهرة عالمية ووصل أمرها الى المحاكم في عدد كبير من البلدان. تلك هي البداية، والحقيقة أنها كانت ثمرة «صفقة» جرت بين ويلز وريشنباخ: يقبل ويلز بأن يصوَّر هكذا لحساب التلفزة الفرنسية شرط أن يعطيه ريشنباخ في المقابل، كل اللقطات المصورة والتي لم يكن قد استخدمها في برنامج آخر كان يصوره للتلفزة ذاتها حول أشهر المزورين. وتلك اللقطات هي التي تشكل متن «لا شيء غيرالحقيقة» انطلاقاً مما يقوله ويلز وهو واقف أمام كاميرا زميله الفرنسي. > هنا، بعد الحديث عن دي هوري، ينتقل أورسون ويلز الى الكاتب كليفورد إيرفنغ ليطل من خلاله ومن خلال كتاب وضعه حول سيرة هوارد هيوز على حياة هذا الأخير، طارحاً أسئلة كثيرة حول أسطورة ذلك «الطيار» «اللعوب» و «المنتج السينمائي» الذي شكلت حياته واحدة من أغرب الأساطير الهوليوودية - وسيعود إليها مارتن سكورسيزي في فيلم رائع هو «الطيار» -. يطرح ويلز هنا، ذلك السؤال حول الحقيقة والكذب في الروايات المتناقلة عن هيوز، الذي كان أصدر بياناً قال فيه إنه لم يلتقِ أبداً بكاتب سيرته. وأسئلة ويلز تدور هنا: من الصادق، من الكذاب بين الرجلين؟ هل إيرفنغ مزور أو هيوز كاذب؟ هل لا يزال هيوز يعيش حقاً، هو الذي يقال أنه أغلق على نفسه أبواباً لا يمكن أحداً اختراقها؟ يقول لنا ويلز هنا، أن أسطورة هوارد هيوز هذه ربما كانت قائمة على لعبة تزوير للحقيقة لا شبيه لها. بل ربما لم يوجد هيوز أصلاً. والحقيقة أن أورسون ويلز كان من حقه أن يطرح مثل هذه الفرضيات هو المؤمن بنظرية بيكاسو حول الحقيقة والكذب، بل هو الذي كان أرعب أميركا كلها أواسط سنوات الثلاثين من القرن الذي عاش فيه، حين قدم تمثيليته الإذاعية المقتبسة من «حرب العوالم» لويلز الآخر، الإنكليزي، وكأن في الأمر غزواً للأرض يقوم به أهل المريخ. وهل كان هذا كله صعباً على من لم يتردد، حين توجه الى إرلندا فتياً ليعمل فيها، في أن يزعم أمام الإرلنديين، كي يعطوه عملاً، أنه واحد من كبار نجوم المسرح الأميركي في برودواي؟ > ما إن ينتهي ويلز من طرح أسئلته المتشككة حول هوارد هيوز، حتى ينتقل الى حكاية أخرى من النوع ذاته: حكاية أويا كودار، الممثلة و «الموديل» المجرية الأصل التي كان عالم الفن عرفها في باريس من خلال علاقتها بالفنان ماتيس في آخر حياته. لكن أويا ارتبطت كذلك بعلاقات مع عدد من الفنانين، همّ ويلز منها في هذا المقطع من فيلمه، علاقتها مع بيكاسو. إذ تقول الحكاية إن تلك المرأة الفائقة الحسن والقوية الشخصية قبلت ذات مرة أن ترافق بيكاسو يوماً بكامله، في مقابل أن يهديها ثلاثين لوحة من محترفه... شرط ألا تعرض تلك اللوحات أبداً. نفّذت أويا الشرط، لكنها أحرقت اللوحات بسرعة، بعدما طلبت من جدها أن يرسم لوحات مزيفة عن اللوحات نفسها، وأن يعرض تلك المزيفة. عرضت اللوحات وجن جنون بيكاسو الذي توجه الى باريس ليكتشف أن المعروض ليس لوحاته. فكان أن عرّفته أويا بجدها الذي قال له بيكاسو مستسلماً: «يا إلهي كم أنت فريد!!». وبعد هذه الحكاية يعود الفيلم الى ويلز، الذي يروي لنا هنا أنه إذا كان قد وعد في المقدمة بأن يروي حكايات فيلمه خلال ساعة، فإنه تجاوز هذا الزمن بـ17 دقيقة، هي التي روى خلالها حكاية مخترعة من ألفها الى يائها. وهذا هو الفن الحقيقي بالنسبة الى ويلز، الذي نراه في اللقطة الأخيرة من الفيلم واقفاً أمام كاتدرائية شارتر في الوسط الفرنسي طارحاً ما اعتبره السؤال الأساس: «ما هو الصدق والحقيقة في الفن؟»، مجيباً بنفسه على سبيل النهاية، في استعارة مباشرة من كلام بيكاسو التمهيدي: «إنني في حاجة الى أن أعتقد بأن الفن حقيقة (وليس الحقيقة بأل التعريف). لكن الفن كذبة تعيننا على فهم الواقع». > كان واضحاً أن أورسون ويلز، في هذا الفيلم البسيط شكلاً، والطموح العميق مضموناً، كان كمن يحاول أن يفسر بل يبرر العلاقة التي أقامها طوال حياته مع الفن من ناحية، ومع الحقيقة من ناحية أخرى. وهو كان في ذلك الحين يقترب من الستين من عمره (ولد ويلز العام 1915 ورحل عن عالمنا العام 1985)، وكان يعرف أنه يقدّم هنا في هذا الفيلم الذي أتيح له تحقيقه، كلمته الأخيرة في السينما وفي الفن. لكن أيضاً كلمته الأخيرة في الحياة نفسها. والمزج بين السينما/ الفن والحياة، لم يكن بالطبع أمراً غريباً على ذلك الفنان الذي كان صاحب «المواطن كين» و «آل أمبرسون الرائعون» و «مستر أركادين» و «لمسة الشر» وسلسلة الشكسبيريات، أي تلك الأفلام وغيرها التي جعلته وفن السينما، طوال القرن العشرين، شيئاً واحداً.