أتوجه إلى الخليج العربي، أنظمة ومجتمعات، مناشدًا فهم ألغاز الغموض في موقف أوروبا وأميركا، إزاء صمتهما ومسايرتهما لروسيا، في تدخلها في سوريا، بحجة القضاء على العنف الديني الذي تمارسه التنظيمات المتزمتة و«المعتدلة». أبدأ الحديث بالتذكير، بمساندة أوروبا (الغربية) للنظام العسكري الجزائري الذي رفض تسليم السلطة إلى «جبهة الإنقاذ» المتزمتة التي فازت في الانتخابات النيابية (نهاية عام 1994). استند الانحياز الأوروبي للنظام الجزائري، إلى التخوف من إقامة دولة دينية في البحيرة المتوسطية العربية - الأوروبية، تهدد ازدهار الديمقراطية في أوروبا. في الحرب الأهلية الجزائرية، حقق النظام نصرًا على «جبهة الإنقاذ» والمتطرفين المتزمتين الذين انضموا إليها. الواقع أن «الجبهة» لم تعرف كيف تكسب التيار الليبرالي العريض في الجزائر إلى جانبها. فقد كان هو أيضًا متخوفًا، من قيام نظام «ديني» يحرمه من الأمل بولادة ديمقراطية حقيقية في هذا البلد العربي. عندما انفجرت الانتفاضات العربية (2011)، سارعت أوروبا (الغربية) إلى تأييدها، مستبشرة برفع هذه الانتفاضات شعارات «حقوق الإنسان». لكن مسارعة «الإخوان» والقوى الدينية المتزمتة إلى استغلال الفراغ السياسي، لإقامة نظام ديني في مصر وتونس رافضٍ للتعددية السياسية، كل ذلك حدا بأوروبا ثم أميركا، إلى المناورة. وتأييد القوى السياسية والعسكرية التي أقصت «الإخوان» وحركة «النهضة» عن الحكم في مصر وتونس. في سوريا، نجح «الإخوان»، بتأييد تركي وبعض دول الخليج، في «أسلمة» الانتفاضة. ونشأت تنظيمات شتى دينية مسلحة تدعي أنها «معتدلة». في الوقت ذاته، أطلق النظام السوري المعتقلين الدينيين لديه، من إخوان ومتزمتين، فساهم عمدًا في تحويل «داعش» إلى «خلافة» مزعومة، مدعية تمثيل السنة التي تعرضت لحروب اضطهاد وإبادة شيعية في العراق. وشيعية علوية في سوريا. وهكذا، راحت مراكز البحوث والدراسات الغربية ترفد صنّاع القرار والرأي العام بأفكار ترفض إطلاقًا القبول بدولة دينية في سوريا، سواء كانت دولة متزمتة أو معتدلة، تمامًا كما تم سابقًا رفض «جبهة الإنقاذ» ومشروع دولتها الدينية المتزمتة في الجزائر. لست ضد التنظيمات الدينية «المعتدلة». لكن لا بد من الاعتراف بأنها ارتكبت أخطاء فادحة في سوريا. فلإثبات تقواها تشددت دينيًا في معاملة السوريين الذين لم يتعودوا القسوة الدينية عليهم. وخاصة في ظروف استثنائية شاقة. ولاحقت هذه التنظيمات المسيحيين وشرائح الطبقة الليبرالية الوسطى في قاع المجتمع بالتصفيات الجسدية. والاقتصادية. فساهمت مع النظام في نزوح الملايين وتهجيرهم. بدلاً من أن تقيم التنظيمات الدينية السورية نظامًا مشابهًا، في ليبراليته وتسامحه النسبي، لنظام الإسلام التركي المعاصر، فقد راحت تتعامل سرًا وعلنًا مع التنظيمات المتشددة، مثل «جبهة النصرة» القاعدية، وحتى أحيانًا مع ميليشيات «داعش»! لجأت أوروبا وأميركا إلى المناورة في التعامل مع التنظيمات «المعتدلة». فقد اتهمت حكومة المحافظين البريطانية «الإخوان» المقيمين في بريطانيا بالاتصال والتعاون مع التنظيمات الإرهابية والمتزمتة، فيما قامت أميركا بتمويل. وتدريب. وتسليح المعارضات الدينية المعتدلة، باستثناء صواريخ جو تُحمل على الأكتاف، خوفًا من أن تنتقل من الأكتاف «المعتدلة»، إلى الأكتاف «الداعشية» و«القاعدية». فتستخدمها في إسقاط طائرات الركاب المدنية. المناورة الدبلوماسية الأوروبية - الأميركية، في مداهنة هواة السياسة في المعارضات السياسية السورية، أفقدتهم التوازن. ظنوا أن استقبالهم وتكريمهم، في العواصم. والفنادق. والتلفزيونات الغربية، بمثابة تأكيد لعدالة القضية السورية. ووصلت مسايرة هذه المعارضات للغرب، إلى درجة التخلي عن الهوية العربية. فلم تعد سوريا تلقى حماسة العرب خارج الخليج، وغيرتهم عليها. ضياع الهوية العربية منح نظام بوتين الجرأة على التدخل العسكري في سوريا، منحازًا إلى النظام. وإيران، ومتعاطفًا مع الأكراد الذين استغلوا هم أيضًا تضحية المعارضات بالهوية، فشكلوا كيانًا عنصريًا انفصاليًا يسيطر على مساحة 30 ألف كيلومتر مربع من سوريا الفاقدة للهوية والكيان. ليست مهمة الصحافي أو الكاتب السياسي إزجاء النصيحة. إنما عرض الوقائع. والحقائق. والتطورات، كما يراها. لا أطالب بالكف عن دعم المعارضات الدينية المعتدلة. لكن أدعو إلى اكتشاف التيار الليبرالي السوري المستقل المهاجر أو اللاجئ إلى أوروبا والدول المجاورة بالملايين. أو المتقوقع رعبًا وخوفًا داخل المدن التي يحكمها النظام، أو القرى والأرياف التي تسيطر عليها التنظيمات الدينية المسلحة. لعل هذا التيار ينعم بكمية من السعادة، بعدما أصبحت السعادة وزارة في الخليج. أو يحظى بالمسامحة. فقد أصبحت هي أيضا وزارة. لن تنشب حرب عالمية أو نووية بسبب سوريا. هناك وفاق أميركي - روسي على تجنب الصدام أو الاشتباك. قلت هنا في «الشرق الأوسط» منذ أسابيع قليلة إن هناك فرزًا جعل العراق من حصة أميركا التي نجحت في استعادة مدينة الرمادي السنية الاستراتيجية من «داعش». وتتهيأ لانتزاع الموصل منها أيضًا. فيما تُركت سوريا حصة لروسيا. وإيران. سوريا اليوم تتعرض لغزو دولي. إقليمي. طائفي، يهدد وحدة ترابها. هناك قوات إيرانية وميليشيات شيعية أفغانية. وإيرانية. وعراقية. ولبنانية، وكلها تزحف مع قوات النظام تحت الغطاء الجوي الروسي شمالاً لمحاصرة حلب ومدن ريفها الشمالي التي تفصل القوات الزاحفة عن قوات الحدود التركية. وهناك مخططات غامضة لاستكمال تهجير وترحيل السوريين بالقوة. وتوطين شيعة في دمشق. وعلى الحدود مع لبنان. وربما في ريف حمص. وحماه. وإدلب. وحلب. تركيا دولة صديقة للعرب. وهي تؤوي لديها 2.5 مليون سوري. اقتراب الخليج من تركيا إنجاز سعودي. قطري. موفق وباهر. لأسباب تتعلق بتناقضات وحساسيات النسيج السكاني التركي، لم يتمكن الرئيس رجب طيب إردوغان من وقف المجازر في سوريا. والحسم مع نظام بشار. روسيا تسعى لمحاصرة تركيا برًا. وبحرًا. واقتصاديًا. حلف الناتو عزز قواته في أوروبا الشرقية. وأرسل أسطولاً إلى بحر إيجه لمراقبة الأسطول الروسي. الاستفزازات الروسية قد تسبب اشتباكات مع تركيا. ونشوب حرب إقليمية على حدودها مع سوريا. وبين تركيا وروسيا حروب تاريخية تبادلتا فيها النصر والهزيمة مرارًا. أيا كانت التطورات، فستسعى أميركا وأوروبا مع روسيا إلى إحباط قيام دولة دينية في سوريا المطلة على بحر ليبرالي الثقافة الإنسانية المشتركة على شاطئيه العربي والأوروبي. ماذا تفعل إدارة أوباما إذا تنصلت روسيا من وعودها بوقف إطلاق النار في سوريا خلال أسبوع؟ الجواب عند المرشحة الرئاسية هيلاري الأكثر إقدامًا وحزمًا مع القيصر الروسي والفقيه الإيراني، من البطة العرجاء المقيمة في البيت الأبيض. المشكلة في أن «حمائمية» منافسها المرشح اليهودي بيرني ساندرز أكثر استسلامًا من «انهزامية» أوباما.