أكاديميان شهيران لهما جماهيرهما وعشاقهما، انشغلا بما أكتبه بشكل عابر في هذه الجريدة، فآلماني وأخافا أمي وزوجتي وأولادي بكلمات يرميانني بها بشكل شخصي، فأحدهما عبقري تخرج من أميركا وبريطانيا يلمزني بالزندقة في حساب تويتر ليقرأها آلاف التابعين له، يكفي أن يوجد بينهم معتوه واحد ليقضي اللزوم، والآخر الجهبذ الخنذيذ الأكاديمي عضو المجامع الفقهية يصفني بالعلمانية على صدر صفحات هذه الجريدة في وسط دهمائي يحب تبادل الشتائم وتصعيدها أكثر من قدرته على تفكيك المصطلحات وتحريرها من دلالتها المكذوبة. وفي هذه المقالة وبما أنني لست جماهيرياً ولا مشهوراً مثلهما، وقد تكرما بالنظر إلى مقالاتي رأيت أن أعطيهما موجز سيرتي الذاتية كي يطمئنا إلى أني لا أزاحمهما على أتباعهما ولا أناكفهما على جماهيرهما، ولا أظهر في التلفاز أو الإذاعة، ولا أشارك في ندوات ولا محاضرات، وحتى لا أملك حسابا في تويتر، ولا أطاول مقامهما وسيرتهما، وأن أكبر خطأ ارتكباه هو إشغال عموم الناس بمن لم يعرفوه من قبل، وشخصنتهما للتهم التي اعتادا في لقاءاتهما عبر القنوات الفضائية وصم أندادهما بها، وقد حاولت أشياء كثيرة تبعدني عن مخاصمة الناس، حاولت أن أكون عازف بيانو وفشلت، حاولت أن أكون رساماً ولم أبرع بما فيه الكفاية، حاولت الشعر فمزقت الأوراق، حاولت أن أصبح (مطوع قاحي) ولو لأسبوع واحد في حياتي، كي يهابني الناس ويوقروني على طول لحيتي وقصر ثوبي، لكن صعوبة الانسجام النفسي ما بين الظاهر الزاهد في الحياة والباطن المقبل عليها حالت دون ذلك، فبقيت مسلماً موحداً كعموم الناس من حولي، لأني ببساطة مجرد (راعي غنم مثقف) لم يتوقف عن القراءة ويكتب أحياناً، حياتي لا تتجاوز أغراض المدرسة للأولاد وطلبات الزوجة التي لا تنتهي، ومقالا عابرا متواضعا من حين إلى حين، يفاجئني أن يحاول هذان المشهوران الكبيران أن يجدا فيه ولو بقايا جنازة يلطمان فيها وعليها. سيرتي الذاتية بإيجاز سأبدأها من خالي شيبان الذي توفي بحر الأسبوع الماضي وكنت من المشاركين بغسل جثمانه مع أبنائه البررة، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، عشت معجباً به لأن أبي ـــ رحمه الله أيضاً ـــ كان يراه نموذجاً للرجل العصامي الذي لم يرتبط بالوظيفة واتجه للعمل الحر في المعدات الثقيلة منذ نعومة أظفاره، وليفتح قديماً بجهوده الذاتية هو ورفاق دربه أبو سيف وأبو خالد وغيرهم فجاج العقبة التي تحول بين جبل قيس وباقي رجال ألمع، ثم يستقل بمعداته وآلياته كموزع معتمد للمياه وغيرها من أعمال في أرجاء محافظة رجال ألمع. سيرتي الذاتية تبدأ باسمي الذي كان وصية أبي لأمي الحامل بي قبل سفره من تبوك متوجهاً كضابط صغير رفق القوات السعودية إلى سورية عام 1973 لأحمل عند ميلادي اسم (مجاهد) تيمناً بمشاركته ضمن القوات العربية في حرب أكتوبر ضد إسرائيل، ولعل المقال هنا فرصة للتذكير بشهداء القوات السعودية في معركة تل مرعي. كبرت ووالدي يعود من سلاح المشاة في (اللواء العشرون)، متأبطاً مجلة (الجندي المسلم) الصادرة عن وزارة الدفاع والتي كان يعطيني إياها بعد أن أتسابق أنا وأخي ماجد في سحب البسطار العسكري من قدميه، ثم نضع أرجلنا فيها محاولين تقليد مشيته، فينهرنا بمحبة لنضعها في الدولاب المخصص لها. كان يغضب والدي مني ومن إخوتي إذا رآنا نقرأ القرآن نتيجة الحفظ، فإذا لم أعرف مكان الكلمة من المصحف، فإنه يكرر علينا: اقرأ يا ولدي الآية بعينك وقلبك، فالقراءة كوسيلة لتحصيل المعرفة عنده أهم من الحفظ كوسيلة للاستذكار، كان في الإجازات يحضر لنا القصص الطويلة لنمضي كامل الصيف في قراءتها وكتابتها من جديد في دفاتر يشتريها لهذا الغرض، ثم يكرر علينا صغاراً وكباراً أن الكتب مهمة فكراً وحكمة، لكن كل ما فيها يبقى (صفصفة كلام) ما لم يتمثله الرجال روحاً ومعنى، رأياً ومواقف. وصلت إلى المرحلة المتوسطة فأخذنا فجأة وبدون مقدمات إلى المصاطب الزراعية في جبال السودة، وجعلنا نشارك الفلاحين الحصاد، يداً بيد، حتى قطعت يدي بالمصرمة/ المحش، حرصاً مني لأسبقهم في سطر الصريم الخاص بي، يأخذنا للمزرعة في محافظة الدرب بجازان، ولا يحضر عمالاً لمد خط الأنابيب من البئر إلى المنزل، بل ترك ذلك لنا وحدنا، حتى تسلخت كتفي من حمل المواسير، وتقرحت يدي من الحفر ومعي إخوتي. عندما وصل عمري إلى الثامنة عشرة أحضر تيساً للثلاجة كعادته ولكنه لم يقم بذبحه كما يفعل دائماً بل كنت من قام بالذبح والسلخ، ولا زلت حتى هذه اللحظة أقوم بذبح خروف عيد الأضحى لوالدتي وبحضورها، دون الحاجة للاصطفاف بانتظار موعد لذبح الذبيحة في المسلخ، وقد ينوب عني بعض إخوتي الصغار بعد أن كلَّ متني في (دحس الجلد عن الستر)، تعلمت الرماية في سن مبكرة كأي شاب في رجال ألمع، ولكني لم أبرع فيها كأبناء عمي، كل هذا وفق تقاليد القبيلة الصارمة في عسير. القبيلة في رجال ألمع مثلاً كانت تختبر الغلام بعصا يسرح بها مع الغنم، فإن كانت سيرته مع العصا محمودة فلم يشج بها رأس أحد وكان منضبطاً في استخدامها حتى في الدفاع عن نفسه، فإن القبيلة تثق به أكثر، فتضيف له مع العصا سكينا صغيرة يربطها بوسطه، فإن كانت سيرته مع السكين الصغيرة سيرة عاقل، فلا ينزعها في وجه أحد عند أدنى خلاف، أخذت منه السكين، واستبدلتها بجنبية، فإن حافظ على أعراف الجنبية وتقاليدها ولم تستفزه الخصومات الصغيرة لنزعها في وجه الخصم، تدرك القبيلة اكتمال رجولة ابنها فتسمح له باقتناء البندقية، ويوصف عندها الشاب بأنه صار (رجل مبندق) أي بلغ أقصى مراحل المسؤولية بحمله للبندقية، بخلاف ما نراه الآن من (مهايط المراهقين) الذين لا علاقة لهم بالأعراف الأصيلة للقبيلة العربية التي كانت تفرضها صوناً للأنفس في ضبط أفرادها عند حمل السلاح وحدوث النزاعات قبل وجود الضوابط الحكومية لذلك. أعود لسيرتي التي قضيت معظمها بين أقاربي أطارد الغنم معهم في جبال عسير، وما بين تبوك وسورية وخميس مشيط نركض مع أبي في تنقلاته الكثيرة، وصولاً إلى استقلالي الفكري في عمري الذي تجاوز الأربعين، ولم أحرص فيه على زيارة أميركا أو أوروبا، ولم تؤهلني مذاكرتي للدروس كي أتلقى تعليمي فيها، فأقصى حكاياتي هي مع صديقي علي أو إبراهيم أو أحمد نصعد جبلاً أو نهبط وادياً نطارد الغنم حيناً وتطاردنا القرود بالصراخ علينا أحياناً كثيرة. أخيراً أعذر الأكاديميين العظيمين الشهيرين على ما اعتاداه من شخصنة لأي فكرة تعترض مألوف الفهم عندهما، لكني بصدق ومحبة وكامل التقدير أدعوهما للبحث عن جنازة تليق بمقامهما، ليشبعا غريزتهما في اللطم، فراعي الغنم مثلي لا يستحق كل هذا العناء، ولهذا لا يسعني إلا أن أقول لهما ما قاله ديوجين للإسكندر: طلبي منك أيها العظيم أن تنصرف بما يليق بك، فإن ظلك يحجب عني ضوء الشمس.