خلال سنوات القرن العشرين، كان مكتوباً على هذا العالم أن يتجرع كأس المرارة خلال اثنين من الصراعات المسلحة. تجسّد أولهما في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وتعرف في الأدبيات العربية المعاصرة بأنها الحرب العظمى، ثم عاود العالم تذوّق مرارات الصراع الدموي، الكوني أو شبه الكوني خلال ويلات الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) بكل ما أفضت إليه كل من الحربين من ملايين الضحايا وكوارث الدمار النفسي والعمراني على السواء. وكم تنفس العالم الصعداء عندما أعلن أهل السياسة وأصحاب الصولجان في طول عالمنا وعرضه شعارهم الذي ما برح أثيراً، وهو: فلتكن الحرب الثانية هي آخر الحروب. بعدها، وعند منتصف العقد الأربعيني، بادروا إلى إعلان المنظمة التي عقدوا عليها كل آمال الشعوب في إنهاء الحرب والتطلع إلى عالم يسوده السلام. وهكذا شهد عام 1945 إعلان قيام منظمة الأمم المتحدة، بعد توقيع وإصدار ميثاق سان فرانسيسكو. هكذا تصورت أجيال النصف الأخير من عقد الاربعينات أن دانت لها الدنيا، وأن الانتصار على الدعوات العنصرية من شأنه أن يفرش مستقبل عالم الخمسينات وما بعدها بورود الأحلام، حيث يكبح الصراع العسكري والحرب الضروس من مخلفات الماضي، وبالتالي سوف ينعم عالم هذا المستقبل بحياة يتمثل مفتاحها الجميل والمأمول أيضاً في كلمة واحدة، هي السلام. وكان بديهياً أن يعهد إلى المنظومة المستجدة على حياة عالم ذلك الزمان، وهي الأمم المتحدة، بمهمة السهر على إبعاد شبح الحرب، ومن ثم إشاعة وإدامة أعلام السلام. هناك أيضاً استجد على معجم السياسة الدولية مصطلح تلخصه العبارة التالية: حفظ السلام. ثم تشاء ملابسات هذه السياسة الدولية أن يتزامن طرح واستخدام مصطلح حفظ السلام مع ظاهرة كانت مستجدة بدورها عند مطلع منتصف القرن، وهي الحرب الباردة، بمعنى صراع الكلمة والسياسة والمعتقدات والمذاهب والأفكار. الحرب الباردة وفي ضوء هذه التطورات، كان فرضاً على عالم النصف الثاني من القرن العشرين أن يعيش ويكابد آثار الحرب الباردة التي نجمت، حتى لا نقول اشتعلت، بين المعسكر الشرقي- الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفيتي وفي مواجهته كان المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وفي غمار هذه الملابسات، ظلت الأمم المتحدة تمارس دورها، متمثلاً فيما ظل يعرف باسم حفظ السلام، باستخدام قوات تصدر بشأنها قرارات من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويصادق على جانبها التنفيذي مجلس الأمم المتحدة، فيما تضم عناصر عسكرية من القادة الضباط والجنود، الذين قضت الأعراف الدولية وتقاليد الأمم المتحدة بأن يتم اختيارهم بعيداً عن الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن (أميركا + روسيا + الصين + فرنسا + انجلترا) بل يتم هذا الاختيار من الصفوف العسكرية التابعة للدول الأخرى الأصغر حجماً والأدنى نفوذاً. الأمم المتحدة والمهام ثم اتسعت رقعة اهتمامات الأمم المتحدة في هذا المجال، لدرجة أن باتت عمليات وقوات الأمم المتحدة الدولية لحفظ السلام تنتشر في أصقاع شتى في أفغانستان والكونغو وكوسوفو وهايتي، والبقية تأتي كما يقولون. وبينما ظلت القوات الدولية لحفظ السلام تضطلع بمهامها خلال سنوات الحرب الباردة، فقد جاءت نهاية الحرب المذكورة لتضفي متغيرات أكثر من ملموسة على نوعية تلك المهام وأساليب أدائها. كان ذلك بالتحديد مع استهلال عقد التسعينات من القرن الماضي. وهي الفترة التي شهدت نهاية صراع الكتلتين، فيما شهدت أيضاً متغيراً بالغ الأهمية تم إضفاؤه على عملية حفظ السلام ذاتها. وجاء هذا المتغير متمثلاً في المقولة الجوهرية التالية: ليس يكفي أن تعمل القوات الدولية على مجرد الفصل بين الأطراف المتحاربة في هذا الجزء من خارطة العالم أو ذاك. المهم أن تتحول مهمة حفظ السلام إلى حيث تشمل أيضاً جانب بناء الدول بعد انتهاء الحروب. وهنا يفيد كثيراً الرجوع إلى الخبرات الميدانية التي تم اكتسابها في هذا المضمار. وفي مقدمة هذه الخبرات ما عمد إلى تسجيله كتابا مهما نصاحبه في هذه السطور. غمامة السلام عنوان الكتاب هو: ضباب السلام (أو غمامة السلام) والكتاب يطل على قضايا الحرب والسلام من منظور القرن الواحد والعشرين. ثم تزداد قيمة كتابنا من واقع أن مؤلفه يصدر بدوره عن تجربة مُعاشة وخبرة يمكن وصفها بأنها ميدانية. مؤلف هذا الكتاب هو السياسي والمفكر الفرنسي جان ماري جويهينو، الذي أنجز كتابه بعد مرحلة حافلة قوامها ثماني سنوات كاملة (2000 ـ 2008) أمضاها وكيلاً للأمين العام للأمم المتحدة، مسؤولاً عن عمليات حفظ السلام التي كان يتم الاضطلاع بها على الصعيد الدولي، وهي العمليات التي بدأ تنفيذها من حيث الزمان مع مطلع القرن الواحد والعشرين، أما من حيث المكان فقد تنوعت مواقع هذا التنفيذ ما بين أفغانستان والعراق في آسيا، إلى الكونغو ودارفور السودان في أفريقيا، إلى جورجيا وكوسوفو في أوروبا، إلى هايتي في عالم أميركا اللاتينية. ولما كان هذا الكتاب يشكل، في التحليل الأخير، تسجيلاً لتجربة المؤلف في مجال محاولات حفظ السلام على مستوى العالم، فقد اختار جان ـ ماري جويهينو عنواناً فرعياً لكتابه، وتمّثله العبارة التالية: مذكرة بشأن حفظ السلام الدولي في القرن الواحد والعشرين. بين الحلم والهدف وعبر فصول وطروحات الكتاب، لا يفوت القارئ المتمعن أن يلحظ مدى اتساع الشقة الفاصلة بين الحلم والهدف، وبين الحقيقة والواقع المتمثل على الأرض. وبمعنى أن يتفهّم القارئ والمتابع لتطورات الأمور في عالمنا كيف تنطلق عمليات أو محاولات حفظ السلام التي لا تفتأ تقوم بها منظومة الأمم المتحدة من رغبة نبيلة حقاً، وتتمثل في العمل على إنهاء الصراعات والنزاعات التي لا تندلع بين الأقطار وأحياناً ضمن حدودها، مع ما تؤول إليه هذه الجهود الدولية من نتائج الفشل أو الإحباط، رغم ما قد تتكلفه خلال عمليات صنع السلام من مغارم وتكاليف وخسائر في المعدات والميزانيات والجهود، بل والأرواح في بعض الأحيان. وهنا قد تصدق المقولة التي صدرت بشأن هذا الكتاب عن مؤسسة بروكنغز الفكرية الشهيرة في أميركا، حين قالت: إن المؤلف يبذل جهوداً مضنية، حين يحاول جاهداً أن يغطي المسافة الفاصلة بين الأزمات الكبرى التي كُتب على العالم أن يواجهها مع مطلع القرن الجديد، وبين الحقيقة التي تقول بأن طموحاتنا النبيلة (لإخماد نيران الأزمات) قد يثبت أنها أمر يتجاوز قدرتنا على التحقيق. في السياق نفسه، تتوقف بروكنغز عندما يؤكد المؤلف أن علينا أن نقبل بالنتائج الجزئية أو غير المكتملة التي يمكن أن تتحقق، وبمعنى القبول أيضاً بنوع من حلول التراضي أو هي ـ بصراحة أكثر ـ أنصاف الحلول، فلا شيء أفدح من أن ينطلق المجتمع الدولي من إفراط في طموحاته بشأن هذه الأزمة أو تلك، بينما يسوقه الواقع على الأرض إلى نتائج أبعد ما تكون عن هذا الطموح. عبر خارطة العالم تتوالى الفصول الاثنا عشر التي تتألف منها مادة هذا الكتاب، وقد خصصها المؤلف لتحليل عمليات حفظ السلام الدولية، عبر خارطة عالمنا ابتداء من أفغانستان بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، وحتى الحالة السورية التي ما برحت ماثلة حتى المرحلة الراهنة، موضحاً في هذا الصدد كيف أن أميركا بعد حادثة المركز التجاري أخطأت حين انفردت بالعمل وحدها في أفغانستان، وبعدها في ساحة العراق، وهو ما ألحق أضراراً شتى بروح التعاون الدولي الواجب اتباعه في مثل هذه الظروف. وفي هذا السياق أيضاً، يوضح المؤلف كيف أن هذا التصرف الانفرادي من جانب الإدارة الأميركية، خلال السنوات الأولى من الألفية الراهنة، أدى بدوره إلى نشوء أجواء من التوتر بين المحافظين الجدد المسيطرين وقتها على إدارة الرئيس بوش الابن، وبين منظمة الأمم المتحدة التي كان على رأسها في الفترة نفسها أمينها العام السابق كوفي عنان. وربما كان من عواقب هذه الفجوة بين الجانبين أن دفع العالم ثمناً فادحاً، تبددت في غماره آمال الشعوب في أن تنعم بحياة من الاستقرار وبحيث ترفرف عليها رايات السلام، الذي لاتزال تلفه غمامات من ضباب السلام الذي يحلم به البسطاء والفقراء والمهمشون، ولكنه لايزال أقرب إلى سراب بعيد عن التحقيق، على نحو ما يومئ إليه عنوان الكتاب. بل تزيد من وطأة هذا الشعور بالإحباط حقيقة أن آمال السلام كانت أكثر من متقدّة في وجدان الملايين من سكان عالمنا، يستوي في ذلك المواطنون العاديون البسطاء بقدر ما يستوي أيضاً أهل النُخب من مسؤولي الدول ومن صفوة الدبلوماسيين والأكاديميين وسائر المشتغلين بقضايا الشأن العام. الحل يبدأ بتقديم التنازلات لأن المؤلف يرى، من واقع خبرته الدولية الحافلة، أن عمليات حفظ السلام في هذه المنطقة أو في ذلك الموقع من قارات عالمنا لا يمكن أن تنتهي بحسم قاطع للمنتصرين أو المنهزمين، فلا سبيل في هذا المضمار، إلا بالاستعداد لتقديم تنازلات بكل ما ينجم عن ذلك من نتائج شديدة التواضع في بعض الأحيان، حيث الهدف المحوري يتمثل في العمل على تجنب الخسائر في الأرواح ومغارم التبديد أو التدمير، ناهيك عن الانقطاع في الموارد التي لا غنى عنها لاستمرار حياة الملايين من البشر، يستوي في ذلك، كما يؤكد المؤلف من واقع خبرته الدولية، جموع المشردين داخلياً، أو أفواج اللاجئين أو المهاجرين أو عشرات ـ مئات الألوف ممن تقطّعت بهم السبل، حين جرى اتخاذهم بمثابة دروع بشرية في حالات المواجهة العسكرية، أو سقطوا ضحايا للاتجار بالبشر أو للاستغلال الجنسي، وخاصة في حالة النساء والأطفال. لا مفر إذن من الاستمرار والمثابرة والإصرار على مداومة عمليات الأمم المتحدة في حفظ السلام، تلك هي النبرة أو النغمة المفتاحية التي لا تلبث أن تتردد عبر صفحات الكتاب. صحيح ـ يعترف مؤلفنا ـ بأن الأمر مازال يرتبط بالعديد من المحاورات والمناظرات وطبعاً التحليلات والتقييمات أو فلنقل الاجتهادات، التي تتردد عبر هذا المحفل السياسي أو تلك الندوة الفكرية أو ذلك الاجتماع المعقود على مستوى دولي أو إقليمي.. إلخ. إلا أن هذه الاجتهادات تكاد تقتصر، بحكم التعريف، على ترديد العبارات وإطلاق الأحكام، بعيداً عن أرض الواقع الملتهب بل المتأجج من جراء نيران الصراع. وفي هذا السياق، أيضاً يؤكد المؤلف أن النهج المطلوب اتباعه ـ على نحو ما خرجت به تجربته العالمية الطويلة ـ هو نهج الممكن بالدرجة الأولى. وفي هذا الصدد يذهب مؤلفنا إلى أن فن الممكن كان المبدأ الذي طالما كان يسترشد به خلال التصدي لتهديدات السلام، ثم يضيف: وطالما وجْدتُ أن عملية صنع السلام (من جانب الأمم المتحدة) لا تلبث أن تكتسي أبعاداً أخلاقية، لا لأنها حرب ضد الشر وحسب، بل لأن عليها كذلك أن تتدارس الأمر على أساس الموازنة بين إيجابيات وسلبيات متعارضة، وهو ما يفرض عليها واجب الاختيار. القرن العشرون أوفى بوعوده القرن العشرون لم يشأ أن يغادر روزنامة العالم إلا بعد أن أوْفى بوعوده بإنهاء الحرب الباردة بين قطبي الشرق والغرب، وانداحت وعود السلام والاستقرار، ومن ثم وعود التنمية بكل أبعادها الاقتصادية ـ الاجتماعية والمعيشية بشكل عام. كل هذه الوعود جوبهت بإحباطات مستهل القرن الجديد، ابتداء من حادثة 11 سبتمبر إياها، وما أعقبها بداهة من اندلاع الفعل العسكري في أفغانستان ثم العراق، فضلاً عما كان قد سبقها من مقولات أدت إلى تأطير هذه الصراعات، وكان في مقدمتها ما شهدته سنوات التسعينات من دعوات تحريضية اكتست ثوب التنظير الأكاديمي، ومنها مقولة الصِدام بين الحضارات. المؤلف ينتمي جان ـ ماري جويهينو إلى سلك الدبلوماسية الفرنسية. واستكمل دراساته العليا في كبرى المؤسسات الأكاديمية الفرنسية، وتولي رئاسة العديد من المؤسسات البحثية . التحق المؤلف بالعمل في الأمم المتحدة، حيث شغل على مدار 8 سنوات موقع وكيل الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة. وتعكس إصداراته الفكرية عمق اهتماماته بقضايا السلم العالمي ، حيث يحرص على الربط بين السلام و الديمقراطية. تأليف: جان ـ ماري جويهينو عرض ومناقشة: محمد الخولي الناشر: مؤسسة بروكنغز، نيويورك، 2016 عدد الصفحات: 276 صفحة ضباب السلام يأتي هذا الكتاب بمثابة تقرير يرصد فيه المؤلف خلاصة تجربته الوظيفية، فضلاً عن خبرته الميدانية، حيث كان يشغل موقع المسؤول رقم واحد عن عمليات حفظ السلام الدولية، التي ما برحت تضطلع بها منظومة الأمم المتحدة على الصعيد الدولي. وبحكم خبرة السنوات الثماني التي أمضاها المؤلف وكيلا للأمين العام للأمم المتحدة خلال حقبة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وهي الحقبة التي بدأت بحادثة المركز التجاري في نيويورك، وأسفرت كما هو معروف عن الوجود والنشاط العسكري الأميركي في أفغانستان، ومِن بعدها في العراق، فإن المؤلف يحرص على رصد وتسجيل أهم الدروس المستفادة من واقع تلك التجربة، وفي مقدمتها أهمية التعامل مع آمال السلام من منظور واقعي، لأن هذا المنظور هو وحده الذي يحقق السلام. وفي السياق نفسه، يشير الكتاب إلى ما نجم عن التصرفات من جانب واحد، التي لجأت إليها مجموعة المحافظين الجدد خلال إدارة الرئيس بوش- الابن، واتخذت خلالها قراراتها الانفرادية بالحرب في ساحتي أفغانستان والعراق، وكان من شأنها قطع السبيل وقتها أمام إمكانيات التعاون الدولي لمواجهة غائلة الإرهاب، مما ازدادت معه صعوبة التحديات التي واجهت عمليات وجهود المنظومة الدولية في مجال حفظ السلام ومجال بناء السلام بعد انتهاء النزاعات.