أيام أزمة الثمانينيات الاقتصادية تأثرت وزارة الصحة مثل غيرها، حتى إن معالي وزير الصحة الأسبق د. أسامة الشبكشي يقول بأن إحدى الصعوبات التي واجهها هي توفير الدواء والمستلزمات الطبية، بسبب تراكم الديون على الوزارة من شركات الأدوية، وبالتالي فإن النجاح الذي ينسبه لوزارته كان في قدرته على تجاوز ذلك المأزق عبر التسديد والتفاوض مع الشركات وإعادة الأولويات. المؤسف أن ذلك كان على حساب الرعاية الأولية والتوسع في المشاريع الصحية، وتوفير الأدوية بالنوعية والكميات المناسبة. وما زلنا نعاني آثار تلك الحقبة رغم سنين الطفرة التي أعقبتها. أذكر بالتاريخ بعد أن قرأت توجيهاً منسوباً للقيادة الصحية بتقليص مشتريات الدواء بنسبة خمسين في المائة، والمبرر هو نقص ميزانيات الدواء وكذلك وجود الهدر في شراء الدواء. لست أعترض على أهمية تقليص الهدر ومكافحة الفساد وتجويد العمليات الإدارية، لكن فكرة تقليص الدواء بنسبة النصف، مقلقة وقد تكون آثارها سلبية على المريض وعلى جودة الخدمة الطبية. موضوع رشاوى شركات الأدوية ليس بالظاهرة الجديدة، سواء في المملكة أو غيرها من الدول، ومكافحة ذلك بالتشريعات والرقابة. وزارة الصحة مسؤولة عن وضع التشريعات المناسبة بدلاً من النقد وكأنها جهة غير مسؤولة عن ما يحدث، أو اتخاذ قرارات تقليص كمية الدواء بطرق عشوائية هكذا. لا يليق بمسؤول التحدث عن فساد شركات الأدوية وفي نفس الوقت عدم المبادرة بوضع التشريعات المناسبة للحد من ذلك. كما لا يليق به إلقاء التهم دون الدفاع عن منسوبي وزارته. قرارات تخفيض الشراء بهذا الحجم الكبير قد تساهم في تعزيز الفساد لا كبحه. لست أدافع عن مصالح شركات الأدوية. التجاوزات والفساد موجود، لكن وزارة الصحة عاجزة عن وضع أبسط التشريعات المقبولة في هذا الشأن، وحيلتها السطحية هي تقليص الكمية غير عابئة بآثار ذلك على المرضى! هناك علم يُسمى تخطيط الدواء واحتياجات الدواء، ويفترض أن يكون المتخصصون فيه - إذا كان لهم وجود بوزارة الصحة وهناك ثقة بقدراتهم - هم من يقرر حجم الاحتياج ونسبه ومصادره وغير ذلك مما يتعلق بالدواء، وليس الإداري بالوزارة سواء كان مهندساً أو طبيباً. هي مهمة الوزارة تأسيس وتطوير هذا الجانب ليكون عملها مبنياً على أسس علمية موضوعية. الدواء ليس سلعة تستطيع ضبط كمياتها بدقة، فهناك نسب متعارف عليها من الاحتياطات والفائض وما قد يتلف، وبالتالي أرجو أن لا يعتقد إداري الصحة بأنه يستطيع ضبط استخدام الدواء مائة في المائة ومع نهاية العام لن يبقى أي فائض ولن يتلف أي دواء. لا يستطيع صاحب بقالة أن يضمن توفير الألبان لجميع زبائنه دون أن يتبقى لديه فائض يتلفه في نهاية اليوم أو يعيده للشركة الموردة، فما بالنا بالدواء وعدم قدرة تحديد أمراض الناس مسبقاً. هذا يقود للنقطة الثانية، وزارة الصحة بإمكانها البحث عن حلول أفضل من التوريد والتخزين بكميات كبيرة في عقود الأدوية مثل التوريد حسب الطلب وإعادة الفائض من الأدوية وتبديل نوعية الأدوية حسب الاحتياج وغير ذلك من الحلول. ليس بالضرورة استيراد الصحة لكميات مهولة من الأدوية وتخزنها في مستودعاتها ثم تتلفها في نهاية العام. هذه طريقة تقليدية في المشتريات، حتى التجار البسطاء تجاوزوها في مشترياتهم. هناك مشروع قديم يتمثّل في عمليات الشراء الموحد المشترك بين دول الخليج العربي. المملكة رغم مساهمتها القيمة في تأسيس ذلك المشروع إلا أنها تراخت في الاستفادة منه ولم تعمل على تطويره بالشكل الأمثل. وزارة الصحة حاولت القفز عليه بمشاريع أخرى مثل تصنيع الدواء وتأسيس شركتها الصحية وغير ذلك من الطموحات التي لم يكتب لها النجاح. الصحة باعتبارها المشتري الأكبر عليها تطوير نظام الشراء الموحد للاستفادة منه في تقليص كميات الدواء وتبادله مع الجهات الأخرى. الخلاصة: إصدار فرمان بتقليص كمية الدواء بنسبة النصف هكذا دون دراسات وآليات مقننة قد يضر المرضى ولا يسهم في مكافحة الفساد وتحسين خطط وآليات الشراء وضبط الهدر وغير ذلك. الدواء ليس سلعة كمالية أو مشروع بناء يمكن تأجيله، ابحثوا عن آليات أخرى لتقليص الهدر المالي. مقالات أخرى للكاتب حول خصخصة التعليم الابتعاث يحتاج أفكارًا جديدة تساؤلات في الخصخصة: الصحة مثالاً هيئة التخصصات الصحية: ماذا يريدون منها؟ مدرسة التخصصي يا وزارة الصحة