بلورة وترسيخ الهوية الوطنية المشتركة، يتطلب الدعوة إلى أسلوب ومنحى جديد للخطاب والحوار والمكاشفة والمصارحة والشفافية، خارج إطار الصياغات التقليدية المستهلكة في كل ما يمس الحاضر ومتطلباته، واستشراف المستقبل واستحقاقاته، مما يستدعي تعميم وترسيخ مفاهيم العقلانية والتنوير والتسامح والتعايش المشترك وتقبل الاختلاف. فلا ضرر من تعدد قراءات الواقع، بل الضرر كلّه في محاولة تنميط الوعي والفكر والممارسة ضمن قالب واحد محنّط وجامد وساكن. فالاجتهاد وفقه «الضرورات التي تبيح المحظورات» مفصل أساسي في الشريعة الإسلامية، ونحن نعرف بأن الحضارة الإسلامية شهدت أوج ازدهارها وعظمتها، في ظل تعددية القراءات والاجتهادات والأفكار في مختلف العلوم والقضايا الفقهية والفكرية والثقافية. ما نحتاجه هو التأكيد على أن العقيدة والهوية الإسلامية والأصالة والتراث، هي عوامل محفزة للتطور والتقدم وفي مواجهة التحديات. نحن مطالبون بتجاوز مفاهيم وذهنيات وممارسات تجاوزها الزمن والواقع خصوصا في ظل التحديات الجدية التي نجابهها. وهذه ليست دعوة إلى التقليد والمحاكاة والاستلاب الحضاري والثقافي إزاء الآخر، والتي لا تقل خطورة من محاولة تجميد الزمن والحاضر والمستقبل على مؤشر الماضي فقط. ما نحتاجه ليس تمثلاً نرجسياً زائفاً للذات والواقع يجمل القبح ويتستر على القروح، بل امتلاك الشجاعة والجرأة والعقل والقلب المفتوح لتحديد مكامن الخلل والضعف إن وُجدت ومحاولة تجاوزها. ما نحتاجه هو التأكيد على أهمية الإصلاح والتطوير الشامل للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وابتداءً من التعليم ومروراً بالجهاز الإداري (البيروقراطي) وقطاع الخدمات وتنمية القوى البشرية (الإنسان) التي هي هدف ومحور التنمية الشاملة،. وما نحتاجه هو التأكيد على أهمية وضرورة بناء وتبلور المجتمع المدني وتشكل وتكامل مؤسساته وتوسيع دائرة مشاركاته. لقد شهدت بلادنا على امتداد العقود القليلة الماضية، تطورات وتبدلات مهمة طالت مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ووضعت خطط تنمية طموحة استهدفت تطوير كافة المرافق والخدمات، وتعديل التركيب الهيكلي للاقتصاد (الريعي) القائم على استخراج النفط بدرجة أساسية, وبغض النظر عن إشكاليات تلك الخطط ونتائجها على الصعيد العملي، إلا أنه لا يمكن تجاهل وإغفال النتائج الإيجابية منها، حيث تشكلت نواة صناعية وزراعية وتجارية نامية، وتطور القطاع المالي والمصرفي والعقاري، وشهد قطاع التعليم نمواً واسعاً على صعيد المدارس والجامعات والمعاهد وإعداد الطلبة والطالبات، واتسع نطاق البعثات إلى مختلف جامعات العالم، واتسع نطاق الخدمات كالصحة والإسكان وتطورت وسائل الاتصالات والمواصلات ما بين المناطق والمدن الداخلية وما بين بلادنا والعالم. هذه التطورات أدت إلى تغيرات بنيوية مهمة في جسم المجتمع التقليدي الراكد (على مدى قرون)، والبسيط والمفكك والمحصور في معازل الوديان والجبال والسواحل، تحت امتداد ورحمة وهيمنة الصحراء اللامتناهية. هذه التحولات بغض النظر عن محتواها النوعي ومستواها الكمي، أدت إلى ارتفاع مؤشر مستويات الحياة والمعيشة وازدياد نسبة التحضر (يشكل سكان المدن حوالي 70% من إجمالي السكان)، وتعدّد وترابط أوجه النشاط الاقتصادي ما بين المناطق واحتلال الفاعلين الاجتماعيين الجدد، كالشباب (يشكلون 70% من سكان المملكة) والفئات الوسطى والشرائح الرأسمالية دوراً متنامياً في المجتمع، وتشكلت الأنتلجنسيا وازداد دورها في عملية التخطيط والإدارة، وخرجت المرأة إلى ميدان التعليم والعمل (ولو على نطاق محدود بالنسبة للأخير)، وبروز شرائح وفئات من العمال والموظفين والفنيين، المهرة التي تتعامل وتتعاطى مع أحدث وأرقى منتجات التكنولوجيا (تشغيلياً على الأقل)، وقد أدت هذه التغيرات إلى بروز وتبلور وعي وقيم وسلوكيات جديدة تتقاطع مع القيم التقليدية السائدة. إننا إزاء الأفقية التي يتسم بها الحراك الاجتماعي والعجز لأسباب تاريخية وموضوعية، في أن تضطلع الفئات الحديثة بتمثيل دورها في بلورة وتشكل المجتمع المدني، وفي مواجهة العمودية التراتبية الأحادية للمجتمع الأبوي المحدث، وإزاء سيرورة الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي وقبل كل شيء إزاء إشكالية الانتماء والهوية، فمنطق الحياة ومتطلبات المستقبل تفترض وتستوجب خلق وتهيئة الظروف والمصالح والروابط والمصير الجمعي المشترك، وصولاً لتحقيق النفسية الاجتماعية والخصائص الثقافية العامة المشتركة، وهو ما يمكن تحديده بالانتماء والولاء الوطني المستند إلى العقيدة والإرث التاريخي والحضاري والثقافي المشترك. الانتقال من الوحدة الجغرافية - السياسية إلى الوحدة المجتمعية والوطنية هي عملية تاريخية موضوعية وذاتية في الآن معاً، تتداخل فيها عناصر الوحدة والاندماج (الوطني) مع عناصر الطرد والتفكك والانحلال التي تمثلها الولاءات والانتماءات الفرعية، كالقبلية والعشائرية والمناطقية والطائفية، التي لا تزال قوية الحضور والتأثير في الواقع الاجتماعي، مما يتطلب فهم واستيعاب الواقع الموضوعي وعناصره المتناقضة والمتداخلة، وتحويل الوعي والإرادة الذاتية ليكون إرادة ووعياً جميعاً، مما يستدعي تجسير الفجوة وردم سوء الفهم بين ممثلي النخب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (الحديثة) فيما بينهم، وبينهم وبين ذوي القرار، وبينهم وبين عموم المجتمع، خاصة القطاعات التقليدية منه والتي لا تزال تمتلك قوة الحضور والفاعلية والتأثير على كل المستويات، مما يفرض ويتطلب محاورتها والوصول معها إلى فهم مشترك للحاضر والمستقبل.