نزار الفراوي-الرباط يشكّل الراحل بيار باولو بازوليني حالة إبداعية متفردة في التاريخ السينمائي العالمي، وأحد من صنعوا مجد السينما الإيطالية التي كانت حتى الثمانينيات مرجعا خصبا لعشاق الفن السابع. كما أنه وثق اسمه أيضا كمثقف وفنان ملتزم تجاه قضايا الشعوب المستضعفة ضد سياسات الاستغلال والاستعمار التي ينهجها الغرب. وكان بازوليني مفتونا بسحر الشرق كجغرافيا حاضنة لحضارات الحكمة والحكاية، وكفضاء يمنح المبدع بسخاء ذلك الضوء الذي يبهج عين الكاميرا وتلك الأصوات العجائبية الآتية من بعيد، ولم يكن ذلك مجرد موقف أيدولوجي لشيوعي سابق. ونظر المخرج الإيطالي إلى ما وراء الضفة المتوسطية، ليعانق أفقا تخييليا أخصبَ روائعَه السينمائية التي جاءت مفعمة بالشاعرية والفنتازيا وكرست مسعى هذا المخرج لكسر أحادية الهوية الأوروبية المتمركزة على ذاتها. ترحال دائم من ورزازات بالجنوب المغربي حيث صوّر أوديب ملكا (1967) ، مرورا بحلب في سوريا حيث جرى تصوير ميديا (1969) في قلعتها الشهيرة، إلى صنعاء اليمنية وفيلم ألف ليلة وليلة (1974)، وفلسطين ومصر ولبنان، تعددت رحلات المبدع الإيطالي إلى الجنوب، دون أن يقتصر على العالم العربي. فقد جاب بازوليني ربوعا قصية في أدغال أفريقيا محمولا بحس الاستكشاف إلى أماكن الأسطورة الصينية والتراث الفارسي بإيران وحكمة بلاد الهند. ولعل ما قام به في رحلته اليمنية يكشف معدن هذا المبدع الذي أنجز -بموازاة تصوير ألف ليلة وليلة- وثائقيا بعنوان أسوار صنعاء، جاء بمثابة دعوة لليونيسكو إلى الحفاظ على التراث العمراني لأقدم عواصم العالم. ومن رحلته إلى فلسطين، عاد محبطا من هجمة مظاهر الحداثة على العمق الروحي الأصيل لأمكنة قدسية كان ينشد تخليدها سينمائيا. عن هذه الفتنة الشرقية وغواية الهوامش البعيدة، يقول المخرج السينمائي المغربي داود أولاد السيد إن بازوليني كان يركز في أعماله الإبداعية على عنصرين اثنين: الوجوه البشرية والمناظر الطبيعية، وهو ما كان يغريه بالترحال واستكشاف الشرق بفضاءاته ووجوه أهله وضوئه المتميز. ويضيف أما لعبة الكاميرا فلم تكن تهم المخرج الإيطالي كثيرا.. إنها مجرد أداة تقنية في تصوره الجمالي، وحين أخرج فيلمه الأول أكاتون، لم يكن المخرج العالمي ملما بأسرار هذه الآلة العجيبة. ويؤكد أولاد السيد الذي أخرج فيلما يحمل عنوان في انتظار بازوليني، أن الشرق -على غرار التخوم النائية في خريطة العالم- كان ذا حضور مؤثر في متخيل المخرج العالمي، بل يعتبر أن بازوليني لم يبدع أعمالا تجاوزت في قيمتها فيلمه ألف ليلة وليلة الذي يعيد زيارة الحكاية الشهيرة، والذي صوره باليمن. وفي هذا الفيلم -كما في فيلم ميديا الذي صور بعض مشاهده في سوريا- بدا أن بازوليني وُفِّق في استلهام روح التراث الشرقي والنفاذ إلى سحره أكثر من سينمائيين عرب كثيرين، حسب داود أولاد السيد. فنان مخلص يذكر أن بازوليني صوّر في صحراء ورزازات جميع المشاهد الخارجية لفيلمه أوديب ملكا عام 1967. ويقول داود أولاد السيد إن فيلمه في انتظار بازوليني الذي يستلهم قصته من هذه المحطة، هو بمعنًى ما تكريم لسيرة المخرج الإيطالي كفنان ومثقف ملتزم بالدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة والشعوب المستضعفة. من جهته، يستعيد الناقد السينمائي عبد الإله الجوهري من خلال بازوليني -الذي احتفت بسيرته الدورة الـ21 لمهرجان سينما المؤلف بالرباط (28 يناير/كانون الثاني- 4 فبراير/شباط)- ذكرى مبدع أحب دولنا النامية، وأخلص لمعاناتنا ومصائرنا المظلمة، وانفتح على ثقافات وتراث الشعوب المختلفة، ثقافات متداخلة متنافرة في نفس الآن. وأضاف الجوهري أن بازوليني استثمر ألوان الشرق وأهازيجه في أعماله الفيلمية المتعددة، وكتاباته الشعرية والفكرية النابضة بمفاهيم فلسفية، كما أحب العالم وأسراره اللامتناهية. تلك الأسرار هي التي أغوت الفنان وبنت علاقة خاصة له بالمغرب، وخصوصا فضاءاته الرحبة المفتوحة المدى في الجنوب، أرض النور والأحلام، حيث سطر ملحمة سينمائية مقتطعة من عمق التراث اليوناني الأصيل، ملحمة الصراع بين الحب واللاحب، بين السلطة والأمومة، حسب تعبير الجوهري. يذكر أن بازوليني من مواليد 5 مارس/آذار 1922 في مدينة بولونيا الإيطالية، وقد انتهت حياته بشكل مأساوي حين تعرض لعملية قتل ما زالت ألغازها لم تحل بعد، يوم 2 نوفمبر/كانون الأول 1975 في شاطئ قرب روما.