لا نغالي إن قلنا إن السينما الأمريكية، بل العالمية، أصبحت تميل بقوة نحو روايات تنبع من تجارب حقيقية، وتعرض قصصاً من الحياة على الشاشة. والجمهور يحب هذا النوع من الأفلام أكثر من الخيال، وإن كان للخيال العلمي والأكشن سحرهما ومقدرتهما على تحقيق أرقام عالية في شباك التذاكر. صدمة أو Concussion، الذي يعرض حالياً في الصالات، هو فيلم يستند إلى قصة حقيقية، وأكثر من ذلك، هو ابن حكاية حديثة العهد، أبطالها عاشوا وما زالوا يعيشون أحداثها، وبطلها الرئيسي حصل في 2015 على الجنسية الأمريكية بعد نضال مستميت ليحقق حلمه الكبير، وليثبت حقائق علمية مهمة، والأهم بالنسبة له، أن يعترف به المجتمع الأمريكي كطبيب. حين تعرف بأي اتجاه يسير صدمة، وما الهدف منه، لا بد أن تستغرب كيف تجازف سوني بيكتشرز بإنتاج فيلم سيُغضب بلا شك اتحاد كرة القدم الأمريكية، والمعروف بقوة سلطته، كما تشتهر هذه اللعبة بأنها عشق الأمريكيين الأول، وتدر أموالاً طائلة بسبب هوس الناس بها وكيف جازف المنتجون، بتقديم قصة حقيقية، ستترك بلا شك أثراً إيجابياً في المجتمع الأمريكي، وتنقذ أرواح الآلاف، وفي نفس الوقت ستترك أثراً سلبياً إلى حد ما في الاتحاد، وقد تحدث تغييراً في مستقبل اللعبة وشعبيتها. صدمة فيلم يتم تصنيفه على أنه سيرة، ويصنف أيضاً تحت بند الرياضة، لكنه يميل أكثر إلى الدراما المستندة إلى حقائق علمية وقصص من الواقع الحالي. فيلم يقف في وجه سلطة المال والرياضة والعنصرية، لينتصر للعلم والحق. هو يسلط الضوء على تاريخ لعبة كرة القدم الأمريكية، ونجومها الأحياء والراحلون، دون أن يغوص في تفاصيل اللعبة. ليس في القصة مغامرات وأكشن أمريكي، بل مجرد حكاية طبيب شاب أمريكي مهاجر يدعى بينيت أومالو، عاش في إفريقيا قبل أن يأتي إلى أمريكا ليستقر في بيتسبرغ ويعمل طبيباً شرعياً. يحمل أومالو عدة شهادات ولديه مجموعة تخصصات أبرزها تخصصه في أمراض الأعصاب. ينطلق الفيلم من لاعب كرة القدم والملقب ب أعجوبة الكرة الأمريكية مايك ويبستر، متحدثاً عن اللعبة، مع مشاهد حقيقية أرشيفية لويبستر مأخوذة من مباريات عدة، وأثناء نيله الجوائز، لتتقاطع مع مشاهد تصويرية يبدو فيها الممثل دايفد مورس بدور مايك ويبستر بعد تقاعده وهو يتحدث إلى الجمهور في الملعب، معبراً عن فخره وخوفه وعن الانتصار والهزيمة. في المقابل نرى د. أومالو (ويل سميث) يدلي بشهادته في المحكمة ليغير مسار قضية عالقة، ويثبت حقيقة أسباب وفاة أحدهم. من هنا نفهم طبيعة عمله، ونواصل معه رحلته المهنية اليومية، وهو يتحدث إلى كل جثة قبل أن يبدأ بتشريحها، وكأنه يتعامل مع إنسان حي، ليطلب من الميت مساعدته على الكشف عن أسباب وفاته الحقيقية. مايك ويبستر يظهر مجدداً، لكنه يبدو كرجل متشرد، يعيش في عربة بالية، يائس يحاول الانتحار، بينما صديقه اللاعب تيري لونغ يحاول تهدئته. كلاهما حزين ويائس، وكلاهما يشد من عزيمة الآخر ويقنعه بضرورة مقاومة هذا الإحساس ولا بد من الانتصار. يعتقد مايك أنه يعاني مرض الزهايمر، يعاني ضجيجاً في رأسه، والطب عاجز عن مداواته. يلجأ لصديقه الدكتور جوليان بايلز (أليك بالدوين) عله يساعده، فيعطيه حقنة مسكنة، قبل أن يعود مايك إلى عربته، وعزلته، وآلامه، فينجح في الانتحار بصعقة كهربائية. وفاة مايك كانت ستمر كغيرها من حالات الانتحار، ويغلق الملف، لولا وصول جثته إلى المشرحة حيث يعمل د. أومالو، والمعروف عنه أنه صاحب ضمير يقظ جداً، يتعامل مع الأموات وكأنهم أحياء، ويأخذ كل حالة على محمل من الجد ويدقق في أصغر التفاصيل. د. أومالو، اكتشف خللاً في الدماغ، لا علاقة له بالزهايمر، فأخذ العينات إلى منزله وسهر مع أبحاثه ليكتشف مرضاً جديداً يعانيه لاعبو كرة القدم الأمريكية، سببه الضربات العنيفة المتكررة على الدماغ، وأسماه مرض الالتهاب الدماغي. د. أومالو أثبت علمياً أن أعجوبة الكرة الأمريكية تعرض لسبعين ألف ضربة على رأسه، خلال مسيرته الرياضية، ما أدى إلى تلف أجزاء، وهو ما يتعرض له كل اللاعبين، وبالتالي قرر أومالو إبلاغ اتحاد الكرة. هنا يبدأ الصراع، بين إصرار الطبيب على إثبات الحقيقة العلمية وتسجيل ما اكتشفه باسمه، وبين رفض الاتحاد تقارير الأطباء والكلام العلمي، وطلبه من أومالو التراجع عن أبحاثه، والوصول إلى حد تهديده، ووضع حياته وحياة زوجته في خطر، ما أدى إلى وفاة طفلهما الأول وهو ما زال جنيناً في بطن أمه. تتوالى حالات انتحار اللاعبين، ويدخل الطبيب في جدل مع الاتحاد الذي يرفض الاعتراف به وبشهادته، فينزعون عنه لقب دكتور كلما تحدثوا إليه ويسمونه السيد أومالو. الصراع هنا يكون على جبهتين، جبهة إرضاء ضميره المهني والإنساني وإثبات الحقيقة العلمية التي توصل إليها، وجبهة العنصرية ومعاناته لأنه أسود وعدم اعترافهم على أنه أمريكي، بل يرفضون الاعتراف حتى بأنه أمريكي إفريقي. السيناريو محبوك بقوة، والحوارات تسترسل لتكشف سلطة المال التي تطغى، والأرقام تتوالى: الاتحاد يوظف آلاف الأشخاص، ومالكيه يتبرعون بملايين الدولارات، ومدينة بيتسبرغ أنفقت 203 ملايين دولار لبناء الملعب، ويغلقون المدارس أيام المباريات، ويرفعون الضرائب، وهناك 20 مليون شخص يستخدمون منتجات الشركة.. فكيف يمكن الاستسلام للحقيقة العلمية التي ستقضي على اللعبة وكل هذا البيزنس المربح؟ المخرج بيتر لاندسمان، تعمد المزج بين المشاهد الأرشيفية والفيلم التصويري، ليمنح شريطه الكثير من المصداقية، ونلمس التقارب الشديد بين الشخصيات الأصلية ومن يجسدها من النجوم. لاندسمان استند إلى مقالة الكاتبة جان ماري لاسكاس لعبة الدماغ، وانطلق منها ومع كاتبتها في توسيع الفكرة والمعلومات لكتابة فيلم صدمة. فمخرج كيل ذا ميسنجر 2014 و باركلاند 2013 يعرف كيف يمزج بين الدراما والمغامرات، وقد تميز في صدمة بأنه ابتعد عن مشاهد الدماء، رغم تصويره الكثير من المشاهد داخل غرفة العمليات، بل تفوَّق وبذكاء شديد في التحايل على مشاهد تشريح الجثث، فأوحى لنا بالعملية كاملة دون أن نرى التفاصيل الدقيقة ودون أن يشوه الأموات ولا يمس صورة اللاعبين المحترفين. لقطات تجنب فيها لاندسمان الوقوع في فخ الملاحقات القانونية والقضايا التي قد يرفعها ضده أهالي اللاعبين. اختيار ويل سميث ليؤدي دور الطبيب الشاب دكتور بينيت أومالو في محله. سميث يليق به هذا الدور، فهو بارع في الأدوار الإنسانية وحكايات النضال والشقاء، وقد تقمص الشخصية قلباً وقالباً، ليتحدث بلكنة الأمريكي القادم من إفريقيا دون أن تسقط منه اللكنة طوال سياق الفيلم. ومن أجمل مشاهده، تلك التي يتحدث فيها مع الأموات وكأنهم أحياء، ومن بعدها حواره مع دكتور جوزف مورون (أرليس هوارد) طالباً منه الاعتراف بحقيقة مرض اللاعبين، والدموع في عينيه والحرقة في صوته وهو يتحدى مورون قائلاً له: أخبرهم الحقيقة. ويقول ويل سميث عن سبب موافقته على بطولة هذا الفيلم، أنه مسه شخصياً كأب لابن يمارس هذه اللعبة، شعرت أنه من الضروري أن ألقي الضوء على هذه الحقيقة المهمة، لذا لم أستطع أن أقول لا للفيلم. تنتصر الحقيقة العلمية، ويبهرك كمشاهد أن تقرأ في النهاية أن الفيلم يعاصر أحداث أبطاله اليوم، وأن د. بينيت أومالو أصبح يعمل في واشنطن وأصبح مواطناً أمريكياً في فبراير/ شباط 2015. وما زالت القضية تتفاعل، وتظهر أعراض وإصابات جديدة لدى لاعبين أمريكيين. صدمة بعدة أوجه اسم الفيلم يحمل أكثر من معنى، معنى صدمة تلك التي تنجم عن ضرب رؤوس اللاعبين ببعضهم بعضا، فتشكل صدمة في النخاع تؤدي إلى خلل ثم مرض مع تكرر الصدمات ومرور السنوات، وصدمة هي تلك التي أصيب بها الفريق الطبي واتحاد كرة القدم الأمريكية حين علموا بحقيقة ما ينتج عن اللعبة من أخطار وأمراض، أدت إلى انتحار مجموعة من أبرز اللاعبين. وصدمة تلك التي أصيب بها الطبيب أومالو بسبب النظرة العنصرية وهو الذي كانت بالنسبة له أمريكا حلماً، والأقرب إلى الجنة. جوائز وانسحاب دخل الفيلم دائرة الجوائز العالمية فتمت تسميته لبعض منها دون أن يفوز بها، بينما حمل بطله ويل سميث جائزة أفضل ممثل من جمعية نقاد الأفلام الأمريكية - الإفريقية، وبالم سبرينغز انترناشونال فيلم فيستيفال والتي منحت بيتر لاندسمان جائزة أفضل مخرج، بينما نال سميث جائزة أفضل ممثل لعام 2015 من هوليوود فيلم أووردز. ويل سميث أعلن انسحابه من الأوسكار ، وكذلك فعلت زوجته جادا بينكت سميث، وقبلهما المخرج سبايك لي، اعتراضاً على العنصرية التي تطغى على الأوسكار.