الشهر الماضي مرت الذكرى الخامسة لما عرف بـ«ثورات الربيع العربي». الملاحظة الأولى في تلك التجربة: أن تلك «الثورات» حدثت في مجتمعات حكمها العسكر. عدا تونس، إلى حد ما. وتبقى الملاحظة الرئيسية، هي: أن حدوث تلك الهزات العنيفة في تلك المجتمعات وما نتج عنها من تغيير مؤقت أو انتقالي في منظومة السلطة بها لا تعني بالضرورة أن الأمور تستتب للنخب الجديدة التي تأتي للسلطة، بل حدث - في بعض تلك المجتمعات - أن عادت تلك النخب القديمة التي استهدفتها تلك الثورات للحكم مجددا! في بعض الحالات استماتت تلك النخب التقليدية (العسكرية في الأساس) للبقاء في الحكم، حتى ولو كان ذلك على حساب بقاء الدولة نفسها، كما هو حادث في سورية.. وما يجري في اليمن في ظل التحالف بين الحوثيين ونظام صالح المخلوع. لقد ذهب العهد الذي كانت فيه عملية الانتقال العنيف أو الأبيض للسلطة تتم من خلال الاستيلاء على المؤسسات السياسية ووسائل الاتصال في الدولة ليعلن قادة الانقلاب البيان الأول من الإذاعة أو محطات البث التلفزيوني. مشكلة المجتمعات التي عاصرت هزات عنيفة، في الخمسينات والستينات نتيجة لانقلابات عسكرية، وتبعتها فترات طويلة من عدم الاستقرار وتعثر مزمن في طريق التنمية، أن نخبها الجديدة (العسكرية في الأساس) حاولت جاهدة أن تبقى في السلطة أطول فترة ممكنة، أو لنقل: بصورة دائمة، مما يجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، أن تتطور محاولات كتلك التي أتت بها إلى السلطة.. أو حتى تطور أي فرص للتقدم تجاه أي اقتراب سلمي لتداول السلطة، قد يفقدها امتيازات الحكم وحصانته. أيضا عملت تلك النخب العسكرية التي خلعت بزتها العسكرية لترتدي الثياب المدنية، إلى إقامة شبكة مصالح اقتصادية واجتماعية في داخل المجتمع ترتبط بالنظام القائم وقدرته على البقاء. بالإضافة إلى إيجاد نخب قضائية يكون توخي العدالة في مؤخرة أولوياتها، من أجل ترسيخ سلطة الرموز والمؤسسات السياسية القائمة، بالقانون! ودائما في الخلفية: يقبع الجيش، وراء الستار وخلف الكواليس، يراقب ما يحدث على الساحة السياسية، حرصا على الإبقاء على امتيازات اقتصادية واجتماعية وعلاقات خارجية، ارتبط احتفاظه بها ببقاء النظام القائم. تشكلت، إذن مع الوقت، في تلك المجتمعات ما عرف بنموذج (الدولة العميقة) Deep State التي ارتبطت فيها مؤسسات الحكم (العسكري في الأساس) بالبيروقراطية والقضاء ومنظمات المجتمع المدني من أحزاب هشة.. وجماعات ضغط عديمة الفاعلية.. ومعارضة زاهدة أو آيسة في الحكم.. بالإضافة إلى شبكات واسعة من المصالح المعقدة بين اقتصاد الدولة وما كان يسمى في الخمسينات والستينات الرأسمالية الوطنية والآن قطاع الأعمال الوطني والخارجي. كما لا ننسى ارتباطات و«تربيطات» المؤسسة العسكرية، في تلك المجتمعات، بقوى إقليمية ودولية. مثل هذه الدولة العميقة تطورت في الشرق الأوسط، ليس فقط في الأنظمة العربية، التي حكمها العسكر، بل أيضا حيث كانت للعسكر سيطرة مباشرة على مقاليد الحكم، مثل ما كان حادثا في تركيا وباكستان. لقد أصبحت تلك الأنظمة التقليدية التي يحكمها العسكر، ولو من وراء حجاب، والتي خضع بعضها لنظام الحزب الواحد غير المنافس لعقود، قادرة ليس فقط على إحباط محاولات التغيير، بأي وسيلة كانت، بل أيضا العودة إلى الحكم لو اضطرت للخروج منه مؤقتا، بفضل استثمارها الطويل الأجل في أصول الدولة العميقة. فأي نظام جديد يأتي من خارج دائرة رموز ومؤسسات نظام الحكم التقليدي القائم يكون مآله الفشل ليس بسبب عدم تعاون مؤسسات الدولة العميقة، بل بسبب اضطرار النظام الثوري الجديد لنفس رموز النظام القديم في تسيير شؤون الدولة، حتى لو تم اختيارهم من بين الفئات الإصلاحية في النظام الذي قامت الثورة لإزالته عن الحكم! هنا يأتي دور مؤسسات الدولة العميقة في إشعال ما يعرف بـ (الثورة المضادة) Counter Revolution لاستعادة رموز ومؤسسات الدولة العميقة التقليدية من جديد للحكم. لا يعني أن تقوم ثورة أن الطريق أضحى ممهدا لرموزها وقيمها ومؤسساتها للحكم. يبدو الأكثر احتمالا: أن كل ثورة، خاصة في العالم العربي، تلد ثورة مضادة تخرج من رحم الدولة العميقة.