صلاح ستيتية، الأديب والشاعر والمفكر والكاتب الفرنكفوني (كاتب بالفرنسية) قامة شعرية وأدبية لافتة ومميزة، أغنت الثقافة الغربية والعربية بكثير من الأمور الشعرية والثقافية والفكرية والفلسفية. يعتبر من الرموز الثقافية العالمية، شكّل حضوره في الثقافة الفرنكفونية علامة خاصة وفريدة، ذلك أنه كتب وأبدع باللغة الفرنسية، ووصل به الأمر إلى التربع على عرش الفرنكفونية إلى جانب الأدباء الكبار في الغرب. وإلى جانب هذا الحضور الكبير للشاعر، فهو تبوأ مناصب دبلوماسية وكان سفيراً لبلاده في العديد من الدّول الغربية والعربية، وفي محافل الدبلوماسية الواسعة. يكتب الشاعر ستيتية القصيدة الملتهبة، على حد تعبير الشاعر الفرنسي بيار دومنديارغ. أحدثت قصيدة ستيتية حركة محورية في الشعر الفرنسي، وتفاعلت في محيطها الكبير. والأهم أن الشاعر الذي كتب بالفرنسية، بقي محافظاً على ثقافته المشرقية العربية، وعلى أصالة اللغة الأم التي نشأ معها، دون أن يبتعد عن الجوهر، جوهره. يعيش ستيتية اليوم في فرنسا، وهو هناك منذ أكثر من نصف قرن. وكانت الأكاديمية الفرنسية قد منحته جائزة سان سيمون التي تعد واحدة من أرفع الجوائز الأدبية التي تمنحها الأكاديمية منذ عام (1957) في ميدان الكتابة عن الذاكرة والحياة والشخصيات والأحداث عن كتابه: (LExtravagance) الصادر عن منشورات روبير لافون والذي يروي فيه جزءاً كبيراً من ذكرياته وعلاقاته مع الشعراء الذين تعرّف إليهم طيلة مسيرته الكتابية. والجائزة تحمل اسم المؤرخ الكبير الذي كتب في عهد الملك لويس الرابع عشر. واستلم ستيتية الجائزة من يد الأمين العام للأكاديمية الفرنسية في 5 سبتمبر/أيلول الماضي في حفل رسمي كبير ضم 300 مدعو في قصر سان سيمون التاريخي. في زيارته الحديثة إلى بيروت التقت الخليج ستيتية في هذا الحوار: } صلاح ستيتية شاعر عربي مشرقي يكتب باللغة الفرنسية، إلى أين وصل الشاعر بعد هذا الإبحار العميق في اللغة الفرنسية؟ هل اكتفيت بالبوح، وكيف استطعت التواصل مع جوهرك؟ عندما يتوقّف الشاعر عن البوح يموت. الكتابة هي بوح مستمر، لم أصل بعد إلى حيث أُريد وحيث تريد لغتي أن تصل. كذلك أيضاً، يمكنني القول، الوصول هو شكل من أشكال الاختفاء أو شكل من أشكال النهاية أو الغياب. إن أهمية الكتابة تكمن في أنها مستمرة وتلامس جوهر الإنسان والحياة، وهذا الجوهر لا يمكن مقاربته بشكلٍ نهائي. والكتابة بالنسبة إلي هي محاولة مستمرة لملامسة هذا الجوهر الملتهب. ففي كلّ ملامسة، التهاب آخر، نارُ أخرى مفتوحة على حقول اللّهب. أما لغتي المشرقية، فهي مشرقية عربية بامتياز، واللغة الفرنسية التي أكتب بها هي شكل أو نوع من الاتصال الضّروري لبناء الوعي الشعري الذي يأخذني إلى النّور والظلّمة في آن معاً. } هل حاولت الكتابة باللغة العربية؟ فكري وأفكاري وثقافتي بجوهرها من أساس ووحي مشرقي عربي بامتياز ولا جدال فيها. لكن تفسير هذا الوعي الثقافي لم يكن بالأصل يستند إلى ثقافة أو دراسة عربية بلغة عربية. أنت تعرف بأن ثقافتي تكونت وبدأت باللغة الفرنسية واستمرت في هذا السياق حتى حاضرنا، ولم يعد بمقدوري العودة إلى الكتابة باللغة العربية. ثم لا تنسى أن الأساس والبداية والانطلاقة كلها تحتم عليك التواصل مع ما بدأته وانطلقت به. } تتبلور قصيدة الشاعر صلاح ستيتية بجوهرها الملتهب، وتجربتك الشعرية طويلة وباذخة بالأسئلة العميقة، مستمرة ومتفاعلة أكثر، كيف تعرّف الشّعر اليوم، ولماذا تستمر بالكتابة؟. إن هذا السؤال هو سؤال الوعي الجميل، سؤال يعبر عن أطروحة كاملة نحتاج إلى مناقشتها والتوسّع فيها، وسأحاول الاختصار: الشعر هو حركة تخرج من الذّات بأشكال مختلفة، قد تكون حركة لولبية أو حركة موج هادر أو حركة سكون وصمت، لا يمكن تعريف الشعر ضمن إطار ثابت ومحدد، الشعر حركة مفتوحة تنطلق وتمتد، وترسم شكل حضورها حسب قوة حركتها ومفعولها، وهي لا تتكرر، بل تستمر إلى ما لا نهاية، وعلى الشاعر أن يكون على أهبة الاستعداد لمواكبة هذا الموج الشعري أو هذه السّكينة التي تبلور القصيدة. والجواب الأهم في هذا السياق هو أن مواكبة القصيدة هي أيضاً فعل إنتاج وإبداع وابتكار، الشاعر يواكب قصيدته باختراعها وإنتاجها وتحويلها في مساحة تساعده على العيش والموت في لحظة مستمرة، تساعده على رؤية الأمر الطارئ ببصيرة حادة. إن الجوهر الملتهب الذي يؤجج الوعي في قصيدتي، قد يكون هو الجزء الأهم من الحريق الشّامل الذي ننتظره في لحظة ما من الحياة. الشعر هو كلّ هذا الوعي وكلّ هذا الحريق، وعندما أقول هذا لا أظن أنني وصلت إلى التعبير النهائي لمعنى الشعر الذي أخذني إلى متاهات وعذابات، يبقى الشعر مسافة مفتوحة لا يمكن اكتشاف نهايتها، مهما حاولنا. أما لماذا أستمر في الكتابة، وماذا أكتب أو ماذا سأكتب، فإنني لا أقوى على الجواب إلاّ بتعبير واحد، وأقول فيه التالي: إن الكتابة هي حاجة ماسّة لي تُعادل حاجتي إلى الهواء والأوكسجين كي أتنفّس. } ما لون أو طعم أو شكل المعاناة التي عشتها؟ هل وصلت إلى مساحة أخرى هادئة وصافية، بعيدة عن القلق؟ لا شك في أن القلق مستمر لا يتوقف. لا شيء يوقف القلق، وقصيدتي تعبّر جلياً عن هذا القلق. سؤالك يضعني على محكّ المتاهة والصفاء في آن معاً. أنا رجل قلق.. كلّ ما يُتعبني وكلّ ما يفرحني يقودني إلى القلق. وأكثر ما يقلقني هو هذا النشاط الهائل الذي تنعم به البشرية اليوم، نشاط أو قل الاستثمار في الموت، كيف يمكن لشاعر أو لأي إنسان أن يقرأ ويتعامل مع مشاهد الموت المجانية والتي تأتي بأمر من الإنسان، من هو إنسان هذا اليوم الذي يقرّر موت إنسان أوحياته؟ أطرح هذا السؤال ولا ألوذ بالصمت، بل أواصل سؤالي بأعلى صوت، وهو طبعاً صوت القصيدة التي تقول وتشرح وتعترض وتبني مداخل الحياة الأجمل. }هل تعتبر ألا مكان للأمل أو للسعادة في دائرة وظلال الشاعر؟ دعني أقول، إن وعي الحياة هو أن يعي الإنسان أسباب عذابه، وربما تكون السعادة وراء هذا الكلام وهذا الشعور. عندما تهجم الحيرة والعذاب والألم، وعندما تطبق العتمة على الروح، يولد نورٌ خفيّ في الذات، وكم تلقّفتُ هذا النّور وتلقّفني، وكانت قصيدتي هي كل هذا النشاط العظيم الموجه لخطواتي. } في كتاباتك وفي أسئلتك الكثيرة عن النهايات والموت ما يستدعي سؤالك مجدداً عن حالة القلق التي وصلت إليها. هل أنت خائف وتعيش هاجس الموت؟ حتماً، لا مفرّ من الموت، كلنا إلى الموت، آجلاً أو عاجلاً، ولا أقول جديداً بهذا الكلام، لكن السؤال الأكبر هو: كيف نواجه فكرة الموت قبل حلول الموت؟ وهل يستطيع الشاعر أن يحمي روحه من العذاب الكبير الذي يصارعه كلما تواردت لأيامه صور الموت؟ بالنسبة إلي، ربما أعيش مع فكرة الموت بقلق كبير وعارم، وربما أرى نفسي تعيش على قارعة الانتظار والتعب والعذاب. فكرة الموت لا تخيفني بالمعنى البيولوجي، هي نتيجة طبيعية لحياة الإنسان، لذلك لا نخاف منها. } لكن كتاباتك تستحضر الموت وتكاد تحدد مكانه وتوقيته؟ استحضار الموت لا يعني تحديد موعد حدوثه. إنني أنتظر الموت، وهذا أمر طبيعي جداً، ربما أكون على انتظار يومي، أنتظر ذلك الذي لا أعرف موعد قدومه. وفي هذا الانتظار يكمن كلّ القلق، لكني بالتأكيد لستُ خائفاً من حقيقة جاثمة في الوجود اسمها، الموت. الموت ليس صدفة تحدث، إنه أمر محتوم، وحقيقة راسخة في حياة الإنسان. ولكن أيضاً، الموت هو مرادف للحياة، لولا الموت لما عرفنا معنى الحياة. حلول الموت أمر طبيعي وحتمي لكنه يبثّ، حين نراه ونتحسسه، رياحاً جبّارة وعنيفة، تصعب مواجهتها أو تجنّب نتائجها القاسية والصعبة في أغلب الأحيان، لذلك نشعر بالقلق الرهيب مع فكرته وإمكان حدوثه. } ماذا عن طقوس الكتابة في حياتك؟ الكتابة هي واجب وضرورة في حياتي، إنني أكتب بشكل يومي، وفي أغلب أوقات الليل أو النهار. موعدي مع الكتابة ليس له ما يحدده من تاريخ أو وقت معين. الحالة هي التي تحدد الموعد. تولد الأفكار والمفردات والأسئلة فجأة، فأسرع إلى تدوينها وتحويلها إلى صور مكتوبة، قد تكون في قالب شعري، وقد تكون أفكاراً في أشكالٍ أخرى من الكتابة. } هل تتخيل نفسك خارج الشعر، ربما تعتزله؟ الشّعر كما قلت، حاجة وضرورة في حياتي، ومن المستحيل العيش خارج هذه الحاجة، الشعر بالنسبة إلي هو حاجة ماسة لي، وهو من أعذب الفنون وأرقاها، لذلك هو في متناول القلّة من أبناء البشر، صحيح أن في كل شخص تكمن الشعرية لكنها تبقى ضمن حدود معينة، إلاّ أن الشاعر الحقيقي والأصيل هو الميزة والاختلاف بين أبناء الحياة. } كيف ترى ما يحدث اليوم في الغرب من عنف وإرهاب على أياد لا ترحم الإنسان بأبسط ما يعتقده؟ المعاناة كبيرة اليوم على مستوى الوعي، والإرهاب الذي يضرب الشرق والغرب اليوم بهذه القسوة والوحشية، هو نتاج تلك الفوضى التي أسست لغياب العقل مكان الوعي والثقافة المنتجة. وأرى أننا نتجه إلى الأسوأ في هذا السياق الأعمى، إذا ما استمرت هستيريا التخلف على منوالها المخيف. الثقافة الحقيقية هي في الأصل فعل ونتيجة يتناوبان على الوعي وتنظيم الوعي بما يضمن تطور الحياة والإنسان، ومن الواضح أننا اليوم نعيش في مرحلة فقدان الوعي والثقافة، وكما ترى ونرى النتيجة، إرهاب وقتل وموت وإلغاء الآخر، وتدمير الأوطان..