تسعى مصر اليوم إلى الحرية والتقدم والاستقرار وهي أهداف صعبة في العموم، تشق على الأمم في حالتها العادية، فما بالك وهي تعيش أجواء ثورة وعملية انتقال تحتاج إلى تأسيس وتأصيل. ما يعني الحاجة المفرطة إلى قيادة سياسية ملهمة، وكتلة وطنية صلبة قادرة على الحركة بسرعة وحسم كافيين لنجاح العبور الصعب إلى الأهداف الكبرى، حتى لا يتكرر بعد 30 يونيو (حزيران) مشهد الفشل الذي عشناه بعد 25 يناير (كانون الثاني)، ونصبح أمة الفرص الضائعة. وقد كشفــــت دعــــوة الفريق عبدالفتاح السيسي إلى التظاهر السلمــــي في مواجهة الإرهاب، وسرعة تلبية المصريين لها، عن خلو مصر اليوم من ذلك القائد السياسي القادر على توحيد المصــــريين خلفه على نحو ما يفعله ذلك القائد العسكري الـــوطني، وذلك بفعل أمور لا مجال لذكرها الآن. لذا يبدو البديل الممكن هو صوغ كتلة وطنية تقوم بالدور ذاته، وهي مهمة صعبة تحتاج إلى توافقات وتضامنات، إلا أنها ليست مستحيلة إذا أحسنّا اختيار الطريق الأنسب من بين طريقين: الأول: التوافق الوطني الشامل، خصوصاً بين التيار المدني والتيار الإسلامي، على النحو الذي تبدت ملامحه لحظة إعلان خريطة الطريق في الثالث من يوليو. إنه الطريق المبتغى لصوغ جبهة وطنية كبرى، غير أن هذه الجبهة ستعاني أمراض الحجم الكبير والسرعة البطيئة، على نحو ما وشت به وقائع الأسابيع الماضية من إبطاء في تشكيل الحكومة نتيجة للخلاف على اسم رئيسها، ثم بعض وزرائها، وجدل حول بنود في الإعلان الدستوري يعترض عليها هذا الفريق أو ذاك، وخلاف حول شروط المصالحة الوطنية، وكيفية التعاطي مع قيادات الإخوان المسلمين. والأخطر من ذلك هو ما أتوقعه من خلاف أعمق سينشب عند صياغة الدستور حول المواد الفارقة في تكييف طبيعة الدولة المصرية، وهل هي دولة مدنية حقاً، مصدر الشرعية الوحيد فيها هو الشعب، أم يتم الحديث المكرور عن مرجعيتها الدينية، وما يفترضه ذلك من جدل حول دين الدولة، ومصدر التشريع فيها وهل هو فقط مبادئ الإسلام الكلية، أم أحكامه الفقهية وفق المذاهب المتعددة لأهل السنّة والجماعة... الخ. أما الطريق الثاني فيتمثل في صوغ كتلة وطنية حرجة لا تعكس كل التيارات الفكرية والسياسية بالضرورة، بل فقط التيارات المؤمنة إيماناً عميقاً بالدولة المدنية الحديثة وقيمها، بصرف النظر عن مسميات القوى المنضوية تحتها، والتي ربما كان بعضها ينتمي الى التيار الإسلامي. مزية هذه الكتلة لا تكمن في كبر حجمها، بل في سرعة حركتها، وقدرتها على المبادرة السريعة، المروق الحاسم إلى قلب الحوادث. ولا يعني ذلك نهجاً استبعادياً لتيارات محددة، فالنهج الاستبعادي يقصيهم عن كل مراحل العملية السياسية، لكن ما نطلبه هنا هو استبعادهم فقط من مرحلة تأسيس هذه الدولة المدنية، قبل أن يعودوا للمساهمة في كل العمليات السياسية التالية وفق القواعد الموضوعة والراسخة. المطلـــوب هنا ليس التخلي عن التوافق الوطني، وإنما قلــــب المعادلة من كون التوافق الوطني سبيلاً للإنجاز السياسي والاقتصادي، إلى كون هذا الإنجاز سبيلاً للتوافق الوطنــــي. سار جمال عبدالناصر في الطريق الثاني فوصل بغيـــته، والتف النــــاس حوله، إذ تمكن الرجل في أقل من عامين مــــن إعادة صوغ أوجه الحياة المصرية سياسياً واقتصــــادياً واجتماعياً، بصبغة جديدة أكثر حداثة في العمـــق، وأقل ديموقراطية في الظاهر، وما نحتاجه اليوم هو أن نسير في طريق الإنجاز والتحديث ذاته بحسم، ولكن نحو غاية ديموقراطية لا شمولية، بينما سارت مصر بعد 25 يناير في الطريق الأول فوصلت إلى طريق مسدود. وإذا كان 30 يونيو منحنا فرصة جديدة، فإن النجاح فيها يقتضي الخلاص من أخطاء المرة السابقة، خصوصاً أن الظروف مختلفة. ففي 25 يناير كان التيار الإسلامي شريكاً في الثورة، ولو من موضع الالتحاق، لذا كان طبيعياً أن يبحث الجميع عن توافق شامل، تم الالتفاف عليه فجرى ما جرى. وأما 30 يونيو فكان ثورة على المكوّن الأساسي في التيار الإسلامي، فيما كانت المكونات الأخرى تراوح بين الحياد في أفضل الحالات، وبين الانحياز إلى شريكها الإسلامي الكبير بدرجات مختلفة. لذا، فإن التيار المدني مطالب بسرعة تنفيذ خريطة الطريق الموضوعة، فيما يؤدي الانتظار الى تعطيل السير وربما انغلاق الأفق. في هـــــذا السياق، تمثـــل جبهة الإنقاذ إطاراً جيداً للعمل، إذ لعبــــت دوراً معقولاً في تمثيل المعارضة الوطنية، وتكتيل التيار المدني واحتضان حركة تمرد معنوياً وسياسياً على نحوٍ كان حاسماً في نجاحها. لذا يبدو الحديث الآن عن تفكيكها أمراً غريباً. فالمفترض ليس حلّها بل تجديد شبابها لزيادة قدرتها على التحرك بمزيد من الإقدام والحسم، بالتعاون مع الرئيس الموقت والقيادة العسكرية باتجاه تأسيس الكتلة الوطنية اللازمة لدعم مرحلة التأسيس وتحقيق أهداف مرحلة الانتقال، وعلى رأسها وضع دستور ليبرالي يخلو من المزايدات حول الشريعة، ويتصدى للأحــــزاب الديــنية المتكاثرة في شكل سرطاني، وكذلك تقــــديم ظهير شعبي للحكومة الانتقالية الحالية يدعم خطواتها الإصلاحية الجريئة، وخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بقائمة موحدة تضمن للتيار المدني الفوز فيها، واستمرار احتضان الحكومة الحالية طالما كانت قادرة على الإنجاز ضماناً لاستمرار مسيرة الإصلاح من دون انقطاع، ولو مع تغييرات طفيفة تحتفظ بهيكلها الأساسي... وأخيراً التوافق على مرشح رئاسي ونائب له في الانتخابات المقبلة، فتلك الأهداف هي بمثابة الحد الأدنى لما يمكن وصفه بنجاح تلك الجبهة كرأس حربة للأمة المصرية في اللحظة الراهنة.