يقولون إن كل ما كتب وطبع في العالم العربي خلال المائة سنة الماضية وهي الفترة التي تطورت فيها الطباعة تطوراً كبيراً شأنها شأن غيرها من وسائل الإنتاج الآلي في البلاد العربية، لا يوازي إنتاج بضع سنين قد لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة في أي بلد أوروبي متقدم، بريطانيا، فرنسا، المانيا، إيطاليا، على سبيل المثال، وهذا البيان الذي أخاله صحيحاً، إن دل علي شيء فإنما يدل على مدى ما نحن فيه من التخلف الثقافي. وإذا رجعنا الى التاريخ العربي في الثلاثمائة الأولى من قيام الدولة الاسلامية، نجد أن الأمر مغاير تماماً مع الواقع الحالي المؤلم، اذ كانت الحياة الثقافية في تلك الحقبة احسن بكثير، وذات نشاط لم يكن له مثيل في تاريخ الأمم القديمة.. ولقد كانت عاصمة الخلافة العربية الإسلامية بغداد، تعج بالورّاقين والخطاطين ودكاكين بيع الكتب وتخزينها، ويقال إن شوارع عدة في بغداد كانت مخصصة لسوق الكتب، والمئات من الناس تعمل في ترتيب الكتب والمخطوطات. وكانت العشرات من الجمال والبغال تحمل الكتب إلى أنحاء أخرى من امصار الخلافة العباسية، وخاصة في عهد ازدهارها، أيام الرشيد والمأمون والمعتصم، حيث كان هؤلاء لا يخلو منزل من منازلهم من مكتبات تحوي آلاف الكتب والمؤلفات، وقد صدق أمير الشعراء شوقي، حين تباهى على قياصرة الروم بهؤلاء الخلفاء والقواد المشجعين للثقافة في قصيدته الخالدة نهج البردة: دار الشرائع روما كلّما ذكرت... دار السلام لها ألقت يد السلم ما ضارعتها بياناً عند ملتأم... ولا حكتها قضاءً عند مختصم ولا احتوت في طراز من قياصرها... على رشيد ومأمون ومعتصم ومن شغف قوّاد المسلمين بالكتب والقراءة الدائمة أن المعتمد بن عباد (1) كان يحمل في سفره حمل ثلاث بغال كتباً ليقرأها في سيره نحو مقصده، ويقال انه استعاض بعد ذلك بكتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني، الاديب الموسوعي والموسيقي الذي لم يترك شاردة ولا واردة عن الادب والادباء والموسيقى والفنون إلا وأوردها في كتابه الاغاني، هذا الذي هو درّة في تاريخ الثقافة العربية.. وها هم قادة الإمارات العربية المتحدة بندائهم لجعل عام 2016 عام القراءة، يحيون ما كان عليه السلف في عهد ازدهار الحضارة العربية، عهد الرشيد والمأمون وملوك الأندلس، وغيرهم.. وبالقراءة وتشجيع الأبناء على التمسك بها سوف نخلق جيلاً جديداً من المثقفين وبالتالي أدباء ومفكرين وكُتاب.. وإني اقترح أن تخصص مؤسسات الدولة هذا العام جوائز سخية لكل من يكتب كتاباً او بحثاً ينتفع به مواطنو الامارات، وكذلك لكل من يقوم بعرض هذه الكتب وقراءتها قراءة نقدية. وبهذا نكون قد حققنا ما يصبو اليه قادتنا من بعث أمة من القراء والكتاب والمثقفين. ويقيني أنه ليس هناك أية مبالغة فيما كانت عليه الحضارة العربية من ازدهار ثقافي، إذ لو تجاوزنا الكوارث التي تعرضت لها هذه الموروثات والكنوز المعرفية من تلف وحرق وإبادة نتيجة للحروب والفتن، وخاصة فتنة المغول التي دمرت وأبادت الكنوز، حيث قيل إن الغزاة رموا بالآلاف من الكتب والأوراق المخطوطة في نهر دجلة ببغداد بحيث اسودّ ماء دجلة نتيجة اختلاطه بالأحبار المخطوطة بها الكتب. وهذا وحده يعني أن التلف الذي أصاب تراثنا الثقافي شيء مهول، ولو تجاوزنا ذلك، ومع وجود هذا الخبر المفجع، فإن ما وصل الينا من هذه المخطوطات التي منها ما طبع ومنها ما زال مخطوطاً، يعتبر وحده مثيراً للاعتزاز والفخر. وهنا يثار سؤال، هل كانت الناس قديما تقرأ في حواضرنا العربية الإسلامية؟ أكثر منا نحن الأحفاد مثلاً. وهل كانوا أكثر منا حرصاً على تلقي المعرفة؟ الجواب يبدو انه ليس في صالحنا نحن في هذا العصر. لأننا نحن الآن أكثر تخلفاً بالنسبة لآبائنا الأولين في التأليف والقراءة على السواء، كما أننا متخلفون عن ركب المعرفة الإنسانية على وجه العموم.. وللاستدلال على هذا التخلف الحالي والتقدم الذي كنا عليه فيما مضى، تحضرني حكاية عن الخليفة العباسي، عبدالله المأمون، حيث كان يشجع المؤلفين والمترجمين والكتاب بإعطائهم زنة ما ينقلونه من الكتب تأليفاً وترجمة وإعداداً، ذهباً، حيث كان الكتاب يوضع في كفة ميزان ويوضع الذهب في الكفة الأخرى، ويعطى الذهب لصاحب الكتاب مكافأة. فأية حضارة معرفية تلك التي نعم بها اوّلونا، وسادت بينهم، ثم بادت حين وصلت إلينا، او تم تبديدها بأيدينا. المعتمد بن عباد آخر ملوك بني عباد في الأندلس..