في ديننا نصان يتحكمان في تصورنا للدين، ورؤيتنا له، ورأينا عنه، ولن يغيب أحد النصين ويبقى الآخر؛ فبينهما علاقة وثيقة، وحوار دائم، وحديث مستمر، وأوْلى هذين النصين بالتقديم، وأحراهما بالرئاسة، كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في ديننا نصان يتحكمان في تصورنا للدين، ورؤيتنا له، ورأينا عنه، ولن يغيب أحد النصين ويبقى الآخر؛ فبينهما علاقة وثيقة، وحوار دائم، وحديث مستمر، وأوْلى هذين النصين بالتقديم، وأحراهما بالرئاسة، كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الكتاب الذي دُعي المسلمون إلى تلاوته، وتدبره، وتفهم معانيه؛ فهو المهيمن على الكتب قبله (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله)، وما دامت الهيمنة له على الكتب قبله، وهي نصوص إلهية، فهو بلا مرية المهيمن على رواية الناس للحديث عن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وهو المحكم فيها، وينتظر من المسلمين أن يقرؤوا هذه الروايات في ضوئه، وعلى هداه. لا معنى للهيمنة التي وُصف بها القرآن الكريم حين تُترك للحديث ورُواته، وتُجعل للعلماء وأهل الفقه في الأزمان الأولى؛ إذ هذا تحويل لصفة الهيمنة من القرآن الكريم إلى عالم الأشخاص، فيصبح أهل الرواية وأصحاب المذاهب والنحل في تاريخ المسلمين هم المهيمنين على وعي الناس وإدراكهم، ويُوضعون مكان الكتاب الكريم، وللأسف فهذا هو الذي جرى في التأريخ تقريبا، فقد أصبح عالم الأشخاص هو المسيطر، والمتحكم في توجيه وعي المسلمين؛ حتى قادهم إلى التهارش والتنابز، وفرّقهم شيعا وأحزابا، وبعُد الكتاب المهيمن عن حياتهم إلا حين يريد أحدهم زيادة حسناته، وكثرة أجره؛ فيُقلّب صفحاته، ويتلوه بلسانه، ويُبعده عن عقله؛ خشية أن يُعيد النظر في إلفه من الأفكار، ويتفكر في حاله. في الواقع والتأريخ، وليس في النظرية والمثال، انتهت هيمنة القرآن في الأزمان القديمة، وغاب أثرها، بعد أن استحوذ عليها العلماء محدثين وفقهاء، ولم يعد أحد يُفكر في قراءة القرآن الكريم، والنظر فيه؛ حتى يصحح ما رُوي، وينتقد ما فُهم، ويُراجع ما دُوّن، ووصلت الحال بالكثيرين إلى أن من يفعل ذلك، ويحاوله، ويُخطط له؛ فهو آثم مبطل؛ لأنه يدّعي شيئا لم يدعه أحد قبله، ويذهب إلى أمر لم يُقدم عليه من تقدّمه؛ فالناس قبله قد اتفقوا على معاني هذه الآية الكريمة، ولم يفهم أحد منها ما فهمه، ومال به ذهنه إليه، فهو خروج عما قالوه، ومخالفة لهم جميعا فيما فهموه، وهكذا فقد أصبح أسلافنا الأولون هم المهيمنين على الكتاب الكريم، والمحيطين بما فيه، فإليهم الرجوع والاحتكام، وليس إلى الكتاب الكريم، الذي وصفه منزله بالهيمنة، ودعانا جميعا إليه حتى نُشارك في البحث وراء هذه الهيمنة، وتبيّن وجوهها، ونقد كل ما كان من خلالها؛ حتى لا يبقى شيء في حياة المسلمين سوى القرآن الكريم؛ كما أنّ كل شيء سوف يهلك إلا وجه رب العالمين (كل شيء هالك إلا وجهه)، و(يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). مما ترويه ذاكرة الأسلاف، ودوّنته أقلامهم في آثارهم بعدهم، قول منسوب للنبي، عليه الصلاة والسلام، فيه: "إنما الشؤم في ثلاثة: الفرس، والمرأة، والدار"، ويُروى أيضا بصيغة أخرى هي: "الشؤم في الدار، والمرأة، والفرس"، وليس ذا وقت الحديث عن تعدد رواياته، واختلاف معانيها، فلذلك وقته، وإنما أردت في هذا المقال أن أنظر إلى ظاهر هذين المتنين من خلال كتاب الله تعالى، فأُحكّمه فيهما حسب ما ظهر لي، وبان بين يدي، وما كان من غرضي أن أعيب الراوي، وأُزهّد فيه الناس، وإنما كان همي أن أُعيد للقرآن حقه المسلوب في الهيمنة على كل شيء، وأنظر من خلاله إلى روايات البشر الذين يخطئون، ولا يُستغرب منهم ذلك، وهي محاولة مني، تخضع لما خضعوا له، وتجري عليّ فيها السنن التي جرت عليهم. أظن أن كثيرا من المسلمين حين يسمعون بهاتين الروايتين، ويقرؤونهما؛ سيعجبون مما فيهما، ويخالونهما مرويات موضوعة أو ضعيفة، ويحتجون على هذا الموقف، إن عيب عليهم رأيهم فيه، بأن الإسلام، ونبيّه الكريم، حاربا التشاؤم والطيرة، ووقفا منهما موقفا حاسما، فكيف يُروى التشاؤم عمن يحاربه، ويسعى إلى علاج العرب منه؟ هذا هو الموقف المتوقع من الناس حين يسمعون هاتين الروايتين، غير أن كثيرا منهم، لا بدّ، مُغير رأيه حين يعلم أن الراوي للحديث الأول هو البخاري ومسلم، والراوي للثاني مالك ومسلم، فحين يعلمون أن هذين الحديثين من رواية هؤلاء العلماء سيتغيّر رأيهم، وينقلب موقفهم، وسيذهب فريق منهم، ومثالهم في القديم ابن قتيبة حسب نقل ابن حجر، إلى أن الحديث الأول محمول على ظاهره، وسيذهب الفريق الثاني، وهم كثير في القديم، إلى حمل الحديث على معنى غير الظاهر، وبهذا يفقد الحديث دلالته البارزة، وتذهب منه فائدة الحصر التي أفادها استعمال (إنما)؛ إنهم حين جهلوا الراوي حكّموا القرآن الكريم، وجعلوا الهيمنة له، واحتكموا إلى عامة المأثور عن رسول الله، وحين علموا بالراوي، ووقفوا على جلالته؛ دافعوا عنه، ولم يقبلوا بخطئه، فكان فريق منهم مصححا للمعنى، ومدافعا عن الرواية، وفريق آخر حمل الرواية على غير الظاهر، وحاول أن يجد لها مخرجا، وكلا الحزبين - وإن اختلف موقفهما- يُؤثر الدفاع عن الراوي (عالم الأشخاص)، ويُضحي بهيمنة الكتاب الكريم. كانت العرب تتشاءم بالغراب، وهو أكثر ما كانت تتشاءم به، ويشرح الجاحظ علة تشاؤمهم به قائلا: "والغراب لسواده، إن كان أسود، ولاختلاف لونه، إن كان أبقع، ولأنه غريب يقع إليهم، ولأنه لا يوجد في موضع خيامهم، يتقمّم، إلا عند مباينتهم لمساكنهم، ومزايلتهم لدورهم، ولأنه ليس شيء من الطير أشد على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان، ولأنه حديد البصر، فقالوا عند خوفهم منه: الأعور، كما قالوا: غراب، لاغترابه وغربته..." (الحيوان)، تلك هي الصفات التي جعلت العرب يتشاءمون منه، ويتطيّرون به، وهي التي جعلتهم يتشاءمون به أكثر من غيره، يقول الجاحظ على لسان عائب الغراب: "فالغراب أكثر من جميع ما يُتطيّر به، في باب الشؤم؛ ألا تراهم كلما ذكروا مما يتطيرون منه شيئا، ذكروا الغراب معه" (الحيوان). وراوي هذا المتن عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل المرأة، وما معها من فرس ومسكن، مُقدّما في الشؤم على الغراب، وكأنّ المرأة فيها من العيوب والسيئات أشد مما حدّثنا عنه الجاحظ في الغراب؛ ألا ترى أن متن البخاري ومسلم جاء فيه الحصر، والحصر معناه أن الشؤم لا يكون إلا في هذه الثلاث المذكورة، أو أنها أشد ما يُتشاءم منها، ولا تشاؤم، ولا طيرة، إلا حيث يكثر الشر، وتعظم المصيبة؛ فهل المرأة الأم والأخت والبنت والزوجة كذلك أو نحن بحاجة إلى مراجعة المروي بعيدا عن راويه وناقله؟ 914