من الواضح أن حضور الدين في المجال العام بشتّى الوسائل بات لافتًا بشكلٍ ندر مثيله، إذ غدا السجال حول الدين والتأويل ومشكل الفهم موضوعًا رئيسيًا، بالإضافة إلى الجماعات المتفجّرة بخلاياها المتنوّعة التي تمطر شرق العالم وغربه، مما يعيد التذكير بحاجتنا الملحّة لإصلاحاتٍ جذرية في المؤسسة الدينية بالعالم الإسلامي من جهة، وبحثٍ حثيث عن خطابٍ ديني معاصر يستطيع رسم خيارات التعايش مع المجتمعات من جهةٍ أخرى. زادت راهنيّة البحث في الخطاب الديني مع لوذ اللاجئين السوريين إلى أوروبا، حيث إمكانات الصراع وشرر النزاع كلها حاضرة. قبل أيام قرأنا عن مضاربةٍ في ألمانيا بين بعض اللاجئين بسبب مسألةٍ فقهية، بينما يحرص رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون على تشجيع وتهيئة خطاب ديني يصحح من مفاهيم اللاجئين للإسلام، ويدفعهم نحو قيمٍ لم يعرفوها من قبل وعلى رأسها موضوعات التسامح والاندماج والتعايش. وسط كل ذلك الظلام الدامس في مجال الخطاب الديني ونقاشه وسجالاته اختار، أول من أمس، متحف الصحافة والإعلام «نيوزيام» في واشنطن منح «جائزة الحرية الدينية» للشيخ عبد الله بن بيه، وهو رئيس «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة». وهو فقيه مقاصدي ذو رؤيةٍ نقديّة لمناهج التأويل والاستنباط، وارتبطت فتواه بعللٍ مثل نقطة التقاء بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة وبين متطلّبات الحياة والعيش، هذا فضلاً عن نقده المستمرّ لمنهاجه هو في الدعوة والفتوى، إذ سرعان ما استقال من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وذلك بعد فورة الربيع العربي، إذ تبيّن له كما في تحليلاتٍ متعددة أن هذا التجمّع قاعدته الحزبيّة ترتبط تحديدًا بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، مع حرص هذا التجمع قدر الإمكان على ضرب المؤسسات الدينية في البلدان العربية التي تنضوي تحت العمل الرسمي، وذلك بغية استصدار فتاوى تساعد على الحراك الشعبي وتشجيع الثورات، واستباحة الدماء كما تنضح فتاواهم طوال السنوات الأربع الماضية، وهذا النقد الذاتي ساعده في رؤية الدنيا وأحكام عيشها ضمن مجالٍ أوسع من الإرث التاريخي المناسب لزمنه غير أن من المستحيل ترحيل أحكام زمنٍ مضى على زمننا الحاضر. ثمة محاولات حثيثة للجم التطرف ووقف جموحه، ومخاوف كبرى من الانبعاث الأصولي في مناطق متعددة. هناك انتعاش لتنظيم داعش في شرق آسيا، وقبض على مجنّدين في سنغافورة تحديدًا، والنذير يصل إلى أستراليا، وكشف تفجير «جاكرتا» أن صراعاتٍ ناشبة بين قادة التنظيم هناك على الزعامة والتدبير، بين «بحرون نعيم» مخطط الهجوم، والأب الروحي للتنظيمات المتطرفة المسجون «أمان عبد الرحمن عبد القادر»، بينما يسعى التطرّف لخلافة النزاع الآيرلندي لدى أجهزة الأمن البريطانية كما في تقرير مهم نشرته رنيم حنّوش في هذه الجريدة في 18 يناير (كانون الثاني) الماضي. وتتحدث المواقع الألمانية يوميًا عن «داعش» وخطرها ومآلات تخطيطها، تفاديًا لهجومٍ يتم ترتيبه من قبل خلايا «القاعدة» و«داعش» المعششة في منطقة «بولنبيك» في بلجيكا معقل التنظيمات المتطرفة في أوروبا ومنها خطط لتفجيرات باريس، ومنها خرجت خليّة طارق معروفي التي خططت لاغتيال أحمد شاه مسعود في 9 سبتمبر (أيلول) 2001. مع نهاية القرن العشرين تحدّث أدونيس قائلاً: «كيف لخّص الإرهاب القرن العشرين»؟! وتساءل عن سبب انهيار قيم التعايش بين المسلمين، لدرجةٍ استحالت معها العودة إلى أسس التعايش القديمة الضاربة في تاريخنا الإسلامي وبخاصة في تاريخ الأندلس، وكذلك ساهم الأندلسيون في إنماء مناطق العرب والمسلمين حينها. هذا السؤال أرّق المفكّر المهم عبد الوهاب المؤدب في كتاباته الثريّة منذ «أوهام الإسلام السياسي» الصادر عام 2002 وركّز بشكلٍ جوهري على مسألة الدين وموضوعاته والأصولية وتحوّلاتها بعد الحادي عشر من سبتمبر، ومن آخر ما قرأتُ له كتاب «الإسلام الآن» تضمن حواراتٍ ثريّة أجراها «فيليب بتي» مع المؤدب قارن فيه باستقبال الأندلسيين في القرن الثالث عشر بعد سقوط قرطبة وأشبيلية ويتذكّر كيف: «عرفت مدينة ميلادي تونس وضواحيها في مدارٍ مساحته 70 كيلومترًا تلاقحًا حضاريًا يلمسه المرء في كل ما أتى به هذا النزوح الذي أغنى أنساق آداب التعامل الحضري، وكذلك الهندسة المعمارية، والصنائع والفلاحة والمصانع، إن مجيء الأندلسيين إلى عاصمةٍ أفريقية (تونس) نشر ثقافة الخلاسيّة التي يمكن للمرء أن يلمسها مرةً أخرى في سمة الهندسة المعمارية التي أضافت الحركية واحتفاليّة الباروكية إلى الهندسة المعمارية»، ثم يضيف: «إن مركز الحضارة الأندلسيّة، المتمثل في قرطبة، تألّق على أرض أوروبية، ويمكن لهذا المركز أن يضفي الشرعيّة على حضور المسلمين في أوروبا». (انظر الكتاب وبخاصة الفصل المهم: الإسلام في أوروبا). شكّل التزامن بين صعود التنظيمات المتطرفة من جهة، وغليان الزحف للاجئين السوريين في أوروبا من جهةٍ أخرى، مجال أرقٍ استثنائي لم يسبق له مثيل منذ 2001، إذ تتحدّث الصحف والقنوات يوميًا عن موضوع الإرهاب والخطاب الديني والمنابر ورجال الدين، وهذا يمنح المسلمين وزعماءهم فرصة كبرى لبدء عمليّة غربلة تهيئ لتعاملٍ استثنائي لوضع مشروعٍ لن يكون سهلاً لتبرئة الدين من الإرهاب ومخاطبة الأمم الأخرى بذلك، وهذا ليس مستحيلاً، فنواة هذا الإصلاح بدأت منذ موجة التنوير العربي في عشرينات القرن الماضي، علينا أن نبدأ هذا الجهد لئلا يصحّ على منطقتنا وصف القتل والدم والإرهاب.. يروي الزعيم اللبناني وليد جنبلاط عن أمه مي أرسلان ابنة الأديب الإصلاحي شكيب أرسلان ومؤلف كتاب «لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم» 1930، أن آخر كلمةٍ تمتمت بها قبل أن ترحل: «العالم العربي.. عالمٌ من القتَلة».