من الطبيعي أن يتعظ الإنسان العاقل من تجارب الآخرين ودروسهم، إن لم يتعلم من تجاربه ولا يقع في حفرة واحدة مرتين، لكن الإنسان العربي يكرر أخطاءه مرة تلو الأخرى ويتجه بكامل حريته وإرادته نحو الحُفَر ليقع فيها مرات ويدفع الأثمان الباهظة من دون أن يعترف بالخطأ ولا يحاول البحث عن مخرج يمنعه من هذا التكرار. ومن بين هذه الأخطاء، تسليم العربي رقبته للأجنبي واللجوء إليه لحمايته من خطر ما، أو حتى ليساعده على ابن أخيه أو ابن عمه. وتاريخ العرب حافل بمثل هذه الخطايا القاتلة التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه هذه الأيام من الويلات والنتائج الوخيمة، ومنها التشرذم والدمار والتقسيم والشلل ثم الوقوف متفرجين على الواقع المرير. فالعرب اليوم ينطبق عليهم القول: «كالكرام على مائدة اللئام»، إذ تتقاسم الدول الأجنبية الغنائم والنفوذ والثروات، وتشاركها دول إقليمية تحصل على الفتات الذي ترضيها به لتأمين سكوتها عن الجريمة الكبرى، فيما إسرائيل تنال حصة الأسد لتواصل مؤامراتها. والمؤسف أن الضحية تسلم رقبتها للجلاد بكل رضا وتسليم من دون اعتبار لكرامة وعزة ومصير ولا لحضارة وروابط دينية وأخوية وقومية وإنسانية أو لمستقبل الأوطان والشعوب. فبعد سنوات من الاستقلال المنقوص والوحدة الشكلية والتضامن المزيف، عاد العرب إلى ذل الرضوخ للمؤامرة الخبيثة وتسليم رؤوسهم للدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي بدل أن تحمي مصالحها بتأييد العرب في نضالهم ضد إسرائيل أو على الأقل الضغط لتحقيق سلام عادل، عمدت إلى الانحياز إلى إسرائيل والرضوخ لتعنتها. وروسيا أيضاً استغلت نار الفتن والفوضى «غير الخلاقة» لتحصد ثمارها وتقايض الغرب على مصالحها في القرم وأوكرانيا وغيرهما، من دون أن تقوم بأي عمل جدي لردع إسرائيل وإجبارها على تنفيذ القرارات الدولية، بل على العكس، يلمس الجميع مدى التفاهم والغزل بين روسيا وإسرائيل وما جرى من غض للطرف على الغارات الإسرائيلية على سورية واغتيال الأسير المحرر سمير القنطار ورفاقه. وينطبق على العرب اليوم مفهوم الحكاية الشعبية عن مزارع دعا الدب إلى كرمه، فعاث فيه فساداً والتهم العنب ثم افترس مضيفه، وهم اليوم يدفعون ثمناً مماثلاً ويواجهون خطر الانقضاض عليهم بعد الخراب الحاصل في الفصل الأخير من رواية العار. وقد يتحدث بعضهم عن استعمار جديد قادم أو عن هيمنة دولية حاصلة على الأرض من المحيط إلى الخليج، لكن واقع اليوم يعتبر أشد خطورة، ما يستدعي دق نواقيس الخطر للتنبه قبل فوات الأوان والنهوض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن «تقع الفأس في الرأس»، فالاستعمار القديم كان أقل شراسة وخبثاً مما نشهده الآن، لأنه أبقى على المكونات الأساسية والمؤسسات، بل ساهم في بناء معالم حديثة ورسم حدوداً في «سايكس- بيكو» تحافظ على الحد الأدنى من الوحدة وتترك مجالاً لتواصل العرب. أما الاستعمار الجديد، فيعمل على تقطيع الأوصال وضرب الروابط وبناء السدود وتقسيم المقسم وتفتيت الدول وإشعال نار الفتن المذهبية والعرقية والطائفية والقبلية، ويساهم في هدم كل مقومات الدول والبنى التحتية ومقومات الوحدة العربية والوطنية. كما دأب الطامعون على نهب الثروات الوطنية بفرض الخوات على الأسلحة وغيرها واقتناص الفرص لتسهيل عمل «منشار الطمع» على الطالع والنازل في تحقيق المكاسب من الحروب التي حرّضوا عليها وفي السلام بالسيطرة على مشاريع البناء وإعادة الإعمار. إلا أنه من منطلق الموضوعية، علينا أن نعترف بأن التنفيذ يتم بأيادٍ عربية وأدوات محلية وأخطاء وخطايا كثيرة يرتكبها بعض العرب على مختلف الصعد، ومن القمة إلى القاعدة، فالأنظمة لم تحسن بناء الدولة العصرية القادرة على الدفاع عن أرضها وكسب ولاء شعبها بتأمين المساواة وتلبية حاجات المواطن وضرب آفة الفساد التي خربت البلاد وأفقرت العباد. وباختصار، لم تعمل على إقامة دولة المؤسسات. أما المواطن، فتحول مع الأيام إلى إنسان داجن مستسلم للواقع لا يضع يده على مواطن العلل ولا يطالب بحقوقه، كما أن المعارضات العربية لم ترق إلى مستوى الدور المنوط بها، بل إن معظمها انتقلت إليه عدوى الانشقاق والبحث عن المغانم أو الدخول في منازعات شخصية رخيصة أو حزبية ضيقة. وهكذا، ضاعت «طاسة» الأمة وتاه المواطن بين سندان الحكم ومطرقة المعارضة، التي زاد من وقع ضرباتها ظهور تنظيمات إرهابية أساءت إلى كل شعار حملته، من دين وخلافة، وهدمت ما بقي من هيبة وسمعة كل من السلطة والمعارضة وشرعت أبواب الأوطان أمام التدخلات الأجنبية، كما جرى بعد اعتداءات ١١ أيلول (سبتمبر) 2001 من غزوات واحتلال وهيمنة وإثارة الرأي العام العالمي بصب الزيت على نار فتنة «الإسلاموفوبيا» التي أطلقها الحاقدون على الإسلام والعرب. كل هذا لم يأتِ من الغيب، ولم يكن ابن ساعته، بل حدث امتداداً لعقود من الزمن البعيد والقريب، وفي التاريخ الكثير من الأمثلة، من الأندلس وملوك الطوائف واستنجادهم بالأجنبي بعضهم ضد بعض، حتى بكوا كالنساء ملكاً مضيَّعاً لم يحافظوا عليه كالرجال. وتكرر الأمر في الحروب الصليبية وما حملته من خيانات بين الأخ وأخيه وابن عمه، ليأتي الفرنجة ويقضوا على الطرفين قبل أن يقيض الله للعرب والمسلمين القائد الكردي البطل صلاح الدين الأيوبي ورجاله المجاهدين لإحقاق الحق وطرد المعتدين وتحرير القدس الشريف. وحتى لا نذهب بعيداً، نعود إلى الماضي القريب منذ مطلع القرن المنصرم، من خيانة البريطانيين للعرب في ثورتهم ضد الدولة العثمانية وما جرى بعد تحقيق مآربهم من نفي الشريف حسين إلى قبرص وتقسيم العرب إلى دول رسمت حدودها الاتفاقية البريطانية- الفرنسية «سايكس- بيكو» وإعلان «وعد بلفور» بمنح فلسطين لليهود وتقاسم الدول المستحدثة بين استعمار وانتداب ومناطق نفوذ. ومن ثم جاءت اتفاقية مالطا لتوسع البيكار بتقاسم الحصص مع أميركا وروسيا، ما أدى الى جر العرب إلى الانحياز، إما إلى المعسكر الغربي أو إلى المعسكر السوفياتي في تبادل للأدوار والمغانم ونهب الثروات. وهكذا، أصبح العرب بقبولهم الدخول في لعبة الكبار كالقط الذي عمد إلى لحس المبرد من دون أن يدري أن الدم الذي يتلذذ بطعمه هو دمه، لأنهم لم يجنوا من حلفائهم المزعومين سوى الخيانة والخيبة والدمار، من انحياز الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، إلى إسرائيل، وسكوت الاتحاد السوفياتي عن العدوان الإسرائيلي، وبخاصة عند وقوع هزيمة 1967، ما أدى إلى خيبة أمل من «الأصدقاء» السوفيات الذين راهن عليهم الكثيرون فخذلوهم وقت الشدة، وهذا ما ظهر وتكرس منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى يومنا هذا. ومن حرب 1967 إلى حرب 1973، التي انتصر فيها العرب، كانت القيادة السوفياتية تعارض في شدة أي عمل عسكري وترفض تزويد مصر بالأسلحة والمعدات الضرورية للصمود، من صواريخ ومقاتلات حديثة، على رغم تأكيد أن ثمنها مؤمن من جانب المملكة العربية السعودية، وهو ما وجدته في محاضر سرية رسمية عن محادثات الرئيس المصري الراحل أنور السادات والزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف ونشرتها في كتابي «أسرار التحضير لحرب أكتوبر» في العام 1999. وفي الوثائق فقرات ملفتة توضح الموقف السوفياتي، ومعه كل المواقف الأجنبية. فقد كان السادات مستميتاً لإعادة ردم الجسور وبناء علاقات متوازنة وتزويد مصر بما تحتاج إليه من الأسلحة الحديثة لتحرير سيناء، ولو بحرب قصيرة تقلب الموازين وتحرك مفاوضات سلام مع إسرائيل، وكان يقابل بالمواقف التالية استناداً إلى النص الحرفي للمحاضر السرية: - نحن مستعدون لأن نرحب بأي خطوة طيبة تقوم بها الولايات المتحدة في حل مشكلة الشرق الأوسط، لكنها للأسف غير موجودة. ولدينا نحن الاثنين خطنا المشترك لحل المشكلة سياسياً، ولكن هل تستطيع أن تقول إن جميع الوسائل استخدمت للحل السياسي؟ نحن نرى أنه لا تزال هناك وسائل يمكن استخدامها في سبيل الحل. - يبدو من المحاضر أن بريجنيف كان يحاول خلال الجلسات التي استمرت بضعة أيام أن يثني السادات عن خطته خشية التصعيد الأميركي والإسرائيلي، ولهذا كرر طرح سؤال افتراضي هو: ماذا لو سقطت قنبلة واحدة على تل أبيب وبدأت الروح الانتقامية؟ ورد السادات: «لن أبدأ بضرب إسرائيل في عمقها... أنا كل ما يهمني سيناء وأرضي أنا». - الكلام الذي تقوله إسرائيل لا تقولونه أنتم ولا نقبله نحن، وأنتم تصرون على القيام بعمليات عسكرية، ولكن ألا تتصور أنها يمكن أن تلغي هذا الكلام كله... ويمكن أن تستغلها أميركا وإسرائيل، وبذلك تصبح خطوة إلى الوراء بدلاً من الأمام. - حاول السادات بكل ما يستطيع الدفاع عن موقفه، وعرض على السوفيات قاعدة عسكرية ورد على طلب بريجنيف حل مشكلة الديون بالموافقة بدعم سعودي- كويتي- إماراتي، كما وعد بدفع ثمن الأسلحة نقداً. وبعد أخذ ورد، جرت الموافقة على معظم طلباته، مع تأكيد بريجنيف على ما يلي: «في رأينا أن السياسة قبل الحرب وبعد الحرب. كان هناك موقف سياسي مبدئي، وهو أننا نريد أن نحل النزاع في شكل سلمي». هذه الوثائق وغيرها، ومن قبلها الوثائق الأميركية التي أكدت دفع العراق إلى خوض غمار حرب ضد إيران، ومن ثم تزويد إيران بأسلحة إسرائيلية (فضيحة «إيران غيت» في العام 1986) وما جرى من تحريض على غزو الكويت (محاضر لقاء صدام حسين بالسفيرة الأميركية أبريل غلاسبي)، ثم استغلال حوادث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لغزو العراق وكل ما جرى بعده، يعطي صورة واضحة ومريرة عن المأساة العربية والواقع الأليم الذي لا خروج من نفقه المظلم إلا بالاعتماد على النفس والكف عن رهن مصير العرب عند الأجانب مهما أعطوهم من طرف اللسان حلاوة، ومهما أبدوا من حسن نية زائف. فهم لا يفعلون ذلك من أجل سواد عيونهم، بل لمآرب وغايات في نفوسهم. فهل يتعظ العرب إن بقيت فيهم ذرة من نخوة؟