ليس ثمة من فن حرون وعصي على التعريف، كما هي الحال مع الشعر. لذلك فإن آلاف المقولات التي حاولت التعريف بالشعر عبر العصور لم تفلح في القبض على ناصيته أو الإحاطة بجوهره ومراميه. وقد يكون التعريف نوعاً من التوصيف لبعض أغراض الشعر وسماته وتمظهراته في هذه القصيدة أو تلك، ولكن التوصيفات على تنوعها أضيق من هذا الفن الرحب والمفتوح على التأويل والمنقلب بشكل دائم على أشكاله المقترحة أو منجزه الأسلوبي. ولأن الشعر الحقيقي أبعد من شكله وأوزانه ومعجمه اللغوي فإن كل المدارس الأدبية والنقدية التي تناولته بالتحليل والتصنيف والتأطير قد ازدهرت لفترة من الزمن ثم آلت بعد ذلك إلى التراجع والضمور، في ما ظل الشعر يلمع مثل برق مخاتل في الظلام الدامس لليل العالم. لم تكن الحداثة بهذا المعنى عقيدة جامدة أو إحلالاً لديانة جديدة محل تلك القديمة. ولا هي محاولة لتحرير الشعر من الأوزان والأنماط الشكلية الجاهزة وتقييده في أنماط وأشكال من نوع آخر، بل هي دعوة مشروعة لإخراج الشعر من أقفاصه الضيقة وتحريره من القوالب والأحكام المطلقة لكي يصبح رهاننا الأمثل على المغامرة والحلم وجمال الحرية، لكن الحداثة التي يكاد يحولها البعض إلى طقس ديني أو وثني ليست محصورة في دعوة أو زمن بعينه، بل هي مغامرة متصلة بالأزمنة كلها، وبلهب الإبداع الذي لا يمثله بدر شاكر السياب أو أدونيس أو محمود درويش أكثر مما يمثله امرؤ القيس وطرفة بن العبد وأبو تمام وأبو نواس والمتنبي وغيرهم، كما أن الحداثة كالحقيقة نسبية وناقصة وحمالة أوجه، وإلا لآلت حالها إلى الركود والتأسن والعجز المحقق. ولأن الأشكال الشعرية لا تجب ما قبلها فيمكننا أن نضع تحت لافتة الحداثة وداخل خانتها قصائد على الوزن الخليلي، أو أخرى على الوزن التفعيلي، أو ثالثة تندرج في خانة قصيدة النثر، أو رابعة تقع في باب الكلام المحكي. فضمن هذه الخيارات الأسلوبية المتنوعة يمكن أن نعثر على نصوص مدهشة وبالغة الفرادة والتميز، ويمكن بالمقابل ألا نعثر على شيء سوى الرتابة والضحالة، واللغة المنقضية التي فقدت صلاحيتها، كما هي الحال مع الأدوية الفاسدة. ليست قصيدة النثر من هذه الزاوية سوى خيار إضافي وحساسية جديدة تضاف إلى خيارات الشعر العربي وحساسياته السابقة، وإذا كان من حق كتابها أن يجدوا مواطئ لأقلامهم ومواهبهم على أرض الشعر، فليس من حق بعضهم بالمقابل في أن يلغي كل ما سواها من خيارات الكتابة الشعرية، وإلا يكون كمن ينهى عن شيء ويأتي بمثله، أي أنه يستبدل نمطية سابقة بنمطية لاحقة، ويقيناً موزوناً بيقين غير موزون. والأجدى أن تتفتح في حديقة الشعر الوارفة كل أنواع الورود، وأن نوسع مساحة الشعر أبعد من سجون الأشكال والأنماط والقوالب المتماثلة. ومن يعود إلى الوراء قليلاً لابُد أن يستوقفه انفتاح مجلة شعر، وهي المنصة الأكثر جرأة على حمل لواء التحديث، على الخيارات الأسلوبية كافة. فهي قد نشرت جنباً إلى جنب نصوصاً متغايرة المقاربات لبدوي الجبل ويوسف الخال وخليل حاوي وأدونيس وطلال حيدر وآخرين. ولو كانت الحداثة مقتصرة على المغامرة الشكلية وحدها فكيف نفسر كون بعض أبرز روادها قد ضمنوا دواوينهم وأعمالهم قصائد على الوزن الخليلي، وأخرى على الوزن التفعيلي، وثالثة تندرج في خانة قصيدة النثر. فهل يعني ذلك أن هؤلاء الشعراء تقليديون ونصف تقليديين وحداثيون في الآن ذاته، أم يعني أنهم يتنكبون الشعر عبر مسالك وأساليب مختلفة ومتنوعة؟ إن ما نلاحظه في الآونة الأخيرة من صحوة جديدة للقصيدة الخليلية، أو قصيدة الشطرين، ليس أمراً شائناً أو بالغ السلبية كما يراه البعض. وليس بالضرورة نكوصاً عن الحداثة وارتداداً على منجزها الرؤيوي والأسلوبي، بل ربما كان نوعاً من إعادة الأمور إلى نصابها، بعد أن كاد اقتراف القصيدة العمودية يعد وفق البعض جريمة شائنة أو خيانة عظمى لروح الشعر ومنجزه الحداثي. ولا أرمي في هذا السياق إلى الدفاع عن النظامين الصغار الذين يتسلقون منابر المهرجانات الشعرية والعشوائية ليحولوا المناسبة إلى مناسبة للصراخ والتهريج والخطابة الجوفاء، بل لأشير إلى بعض الأصوات الشابة التي تحقن القصيدتين الخليلية والتفعيلية بأمصال التجدد والمغايرة والتخييل المدهش. وكما أن القصيدة المحكية قد تسقط في فخ العنتريات الزجلية السطحية، أو ترتفع إلى الذرى الأخيرة لنشوة الروح، كما في نصوص الأخوين رحباني، فإن الأمر نفسه ينسحب على النصوص الخليلية التي يصيبنا بعضها بالغثيان، فيما يرفدنا بعضها الآخر بأجمل ما في الحداثة من تجليات الخيال وحدوسه وإشراقاته. شوقي بزيع