المتابع لأنشطة مهرجان المسرح العربي الثامن الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وعقد في الكويت ما بين 10 إلى 16 يناير/كانون الثاني، يمكن أن يخرج من هذا المهرجان بعدة ملاحظات، فقد أكد المهرجان أنه حدث استثنائي في الساحة المسرحية العربية، وأنه يلبي حاجة المسرحيين الملحة في إطلاع كل منهم على تجارب الآخر، وإقامة نقاش حي حول مسائل جارية على الخشبة، والبحث في رؤى المستقبل، وكان مستوى الحضور كبيراً ما يعجل الاستفادة مما يقدمه المهرجان، خاصة أنه تنوع بين مختلف الأجيال المسرحية، ومختلف مناطق الاشتغال الفني والأكاديمي. على مدى أسبوع شاهد الجمهور الكويتي والضيوف الذين يعدون بالمئات 15 عرضاً مسرحياً تلخص مجمل ما يطرح في الساحة العربية من رؤى وممارسات مسرحية، ورسمت خريطة في ما بين المسرح التقليدي والمسرح التجريبي، والواقعي والتاريخي، والمسرح الجاد والهازل، وأكدت حضور التقنيات الجديدة في صلب الحدث الدرامي، وكان ذلك مثاراً لنقاشات تواصلت خارج قاعات الندوات التطبيقية فاحصة ومقيمة لما يقدم، تنويراً للجمهور المسرحي، وتنبيهاً على عناصر الجدة في تلك الظواهر، وتخللت أيام العروض ندوات في مجال السينوغرافيا بحثت في ما يمكن أن يقدمه الاشتغال على عناصر الإضاءة واللون والأكسسوار للحدث الدرامي، من ناحية خلق أجواء ملائمة له ومعززة لرؤية المخرج التي يريد أن يتركها لدى المشاهد، وفي مجال التمثيل والارتجال استهدفت التعرف إلى قدرات الممثل الجسدية والذهنية، وكيفية اكتشافها وتنميتها، وكذلك ندوة الحريات والحقوق المسرحية التي عكفت على دراسة طرق الحفاظ على حرية الفنان في بعض بلدان الوطن العربي في ظرف اشتدت فيه الصراعات الداخلية، وتشظت فيه روابط المجتمع، وتعزز الاستبداد، وأصبح الخناق يضيق على الحريات الأساسية للفرد. انشغلت معظم العروض بالواقع العربي، وما يدور فيه من أحداث، وقد طغى موضوع العنف على غيره من المواضيع، فعكست أجواء الحرب والقهر التي تعانيها بعض المجتمعات العربية، لكن الملاحظ في تلك العروض أن المعالجة الدرامية لتلك العروض بدت تائهة، عاجزة عن أن تسير في خط مستقيم يبين أسباب العنف والحرب ومآلاتها، واكتفت بالتوقف عند مظاهره، والبحث عن مسارات ثانوية جانبية لإنهاء المسرحية، هذا ما حدث مع مسرحية مدينة في ثلاثة فصول وسيد الوقت وزيد انزيد لك، ومسرحية صدى الصمت نفسها التي فازت بجائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، والتي شعر المشاهد في لحظات أنها توقفت، وظلت تدور في نقطة واحدة، هي حوار حوار رجل وامرأة لا يتفاهمان، وكل منهما بحاجة للآخر في غربته، ولم ينقذها سوى الاحتيال الإخراجي الذكي باللجوء إلى تقنية المسرحية داخل المسرحية، حيث بدت الشخصيات في العرض كأنهم ممثلون في بروفات يقودهم دراماتورج، يتدخل بين الفينة والأخرى ليغير مسار الحوارات، ويأمر بتغيير المشهد، وهو ما أعطى مجالاً واسعاً للعنصر الكوميدي على حساب العنصر الدرامي، ولوحظ أن معظم العروض التي مثلت على خشبة المهرجان كانت إعداداً أو تحويلاً أو اقتباساً من نصوص مسرحية سابقة، قصد تكييفها مع الواقع الراهن، مما يجدد التساؤل حول وجود النص المسرحي الذي يقدم رؤية درامية جديدة نابعة من راهن المجتمعات العربية، ويعالج الواقع الذي تعيشه اليوم برؤية تقدمية واضحة، فقد عكست العروض مثل هذا النص، فكثير من العروض التي تنافست على الجائزة، كانت إعداداً عن نصوص سابقة، أو لمؤلفين راحلين مثل (مدينة في ثلاثة فصول) التي أعدها كفاح الخوص عن نص للكاتب الراحل مصطفى الحلاج، و(سيد الوقت) التي أعدها المخرج ناصر عبد المنعم عن نص للشاعر فريد أبو سعدة، ومكاشفات التي أعدها الراحل قاسم محمد من عدة نصوص مسرحية، و(صدى الصمت) التي ألفها الكاتب الراحل قاسم مطرود، فهل يعني هذا غياب النص المعاصر الذي يحفر في الواقع ويتفاعل معه، وهل النصوص التي تفوز في مسابقات التأليف المسرحي لا تلبي طموح ورؤى المخرجين، أم أن هؤلاء المخرجين لا يلتفتون لتلك النصوص، ولا يكلفون أنفسهم بالقراءة والبحث الجاد عن النص الجيد. أعطت معظم العروض مساحة كافية للتقنيات السينوغرافية وعكست وعياً عاماً لدى المخرجين اليوم بقيمة هذه التقنيات ومدى تأثيرها في الجو العام للمسرحية، وفاعليتها في تقديم حلول غير تقليدية للمشكلات الإخراجية، وكان مستوى التعامل معها جيداً دالاً على انخراط المسرحيين العرب في الحداثة، ومبشراً بمستقبل جيد للمسرح، لكن هذا الاهتمام في بعض الأحيان كان يأتي على حساب الرؤية الدرامية أو لتغطيتها العجز في تلك الرؤية، وهو ما يحتاج من المخرجين إلى إعادة نظر، لإقامة توازن بين عناصر العرض المسرحية، وإعطاء مركزية للرؤية الدرامية، والوعي بكون كل العناصر في المسرح ينبغي أن تكون خادمة لهذه الرؤية. كان مستوى التعامل مع الفصحى جيداً، من ناحية سلامة النطق والنحو والتلقائية في الأداء لدى الممثلين، خاصة في العروض التي قدمت بها مثل سيد الوقت ومكاشفات، ولقيت تلك العروض تجاوباً من طرف الجمهور لم تلقه العروض الأخرى التي قدمت بالعامية، ما يظهر أن العرض يكون أكثر حظاً لدى عامة الجمهور العربي عندما يقدم له بالفصحى، وقد خسرت بعض العروض التجاوب الجماهيري، وحتى النقدي معها، لأنها قدمت بلهجات غير مفهومة لمعظم المتفرجين، وقد لاحظت ذلك لجنة تحكيم المهرجان. كانت مساحة التجريب مبالغاً فيها خاصة في العروض الهامشية التي بدا معظمها وكأنه تدريب أكاديمي في قسم من أقسام الدراما، حيث الاشتغال على عنصر واحد، وكان عنصر الأداء الجسدي الأكثر حضوراً في تلك العروض، لكن المبالغة في الاشتغال عليه حجمت من تناول العناصر الأخرى، وربما تكون لجنة اختيار العروض الهامشية أرادت أن تلقي الضوء على بعض الاشتغالات الخاصة في مجال عناصر العرض المسرحي وإبرازها ليستفيد منها الآخرون، وهو مبرر وجيه، لكن ينبغي أن يكون الاختيار بتوازن يعطي لكل التوجهات المسرحية السائدة في الساحة دورها، ليصنع تنوعاً مفيداً، ولا يرتكز في جانب واحد فيبدو المهرجان وكأنه يدعو إلى اتجاه مسرحي واحد. كان عنصر التمثيل لافتاً واحترافياً في كثير من العروض، ما يعني أن المسرح العربي لا يعاني فقر في مجال التمثيل، والمواهب القادرة على الأداء، وقد شارك في العروض فنانون مسرحيون لهم تاريخهم الطويل في مجال التمثيل، ويعتبرون نجوماً في بلدانهم، وبعضهم معروف على الساحة العربية، كما تألق فيه شباب من الأجيال الجديدة، وكان هناك تناغم جميل بين الأجيال على خشبة المسرح، ما يبشر بمستقبل المسرح، ويجعل الساحة غير قلقة من هذه الناحية.