ككل حلم من أحلام الشعوب، يمكن للربيع العربي أن يكون رؤيا صادقة أو أضغاث أحلام أو كابوسا. لكن الرائي غير الراوي، وهما معا غير المؤول. اكتسب هذا الحلم اسم الربيع العربي، بعد أن عرفته عدة دول عربية. أما في بلد انطلاق الحلم (تونس)، فقد اعتبر ثورة الياسمين. تباينت وجهات مؤولي هذا الحلم العربي، من لدن العرب أنفسهم سياسيين ومثقفين. تماما كما يحصل بالنسبة لأي خبر أو حدث: فالبعض رآه حديث خرافة، والآخر شكك في الحالم، وبعض اعتبره مؤامرة أجنبية. فيما ذهب آخرون إلى وصفه بالثورة، أو الانتفاضة، أو الحراك. وما زالت التأويلات تتناسل، والأحاديث الصحفية تطلق عنان التأويلات المختلفة والمتضاربة، في غياب قراءة متأنية ودقيقة تحاول تأمل كيفية استيقاظ الحالم، وطبيعة الحلم، وهل هو قابل للتأويل؟ أبشارة أم إنذار؟ ولقد بات الكل يتساءل الآن، بعد خمس سنوات، عن مآله ومصيره؟ لا يمكن التعامل مع ما جرى في يناير 2011 في تونس وبعدها في مصر والمغرب وليبيا واليمن وسوريا،،، على أنه بسيط في تاريخ العرب الحديث. ولا يمكن قياسه بالأحداث الكبرى التي تنتفض فيها الشعوب وتسارع إلى قصر السلطان لعزله أو قتله، أو تخرج قطاعات للتظاهر للتعبير عن مطالب خاصة بفئات اجتماعية محددة. كما لا تجب مقارنته بثورة يقودها حزب تلتف حوله الجماهير، أو انقلاب عسكري تقوده شرذمة من الضباط. ما جرى مختلف كل الاختلاف عن مثل هذه الحركات. ومن هنا تأتي صعوبة قراءته ومقارنته بما يتماثل فيه في محاولة إنجاز التغيير. وبدا ذلك واضحا في التوصيفات التي قدمت له، وإن ظلت كلمة الربيع العربي التسمية الشائعة. ما يجمع بين حدث الربيع العربي في الأقطار التي وقع فيها هو خروج الشباب وقطاعات واسعة من الجماهير إلى الساحات العمومية مطالبة بـالحرية والكرامة بعد إقدام البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على العسف. كانت الحشود غفيرة، وتزداد أعدادها نتيجة توظيف وسائل جديدة للتواصل الاجتماعي. وصار الاحتشاد يتم في ساحات عمومية لها رمزيتها التاريخية وفي أيام الجمعات التي صار يعطى لكل منها اسم يعلن على التصعيد. وفي المغرب كانت أيام الآحاد مواعيد للاحتشاد. ارتفعت حدة الشعارات مع الزمن لتنتقل من الحرية إلى محاربة الفساد إلى المطالبة برحيل النظام. توج الربيع العربي بسقوط أنظمة تونس وليبيا ومصر واليمن. واعتبر النظام المغربي استثناء، لأنه استجاب لمطالب المتظاهرين، ورفع سقف الاستجابة إلى حد مناقشة شعار المملكة. طرحت دساتير جديدة، وتمت انتخابات أوصلت التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم، فتحول الحديث من الربيع العربي إلى الخريف الإسلامي. ولم يكن ذلك سوى تعبير عن التراجع الزمني، فتوجه الصراع ليصبح ضد الإسلاميين، فجاء العسكر في مصر للحسم، وظل التونسيون يغالبون بالحوار والنقاش، وتحولت ليبيا إلى ساحة حرب، لا تقل ضراوتها عن التي يخوضها النظام السوري، أو تمارسها ميلشيات الحوثي وصالح ضد الحكومة الشرعية اليمن. أما في المغرب فالحكومة الملتحية، كما سمتها وسائل الإعلام، مستمرة في تدبير الشؤون بين شد وجذب. تحولات وصيرورة ودخل تنظيم الدولة الإسلامية على خط الربيع العربي، أو الخريف الإسلامي ليدرج العراق وسوريا وبعد ذلك ليبيا في مسلسل دموي، يفتح الباب على مصراعيه للاقتتال وبسط الهيمنة. ولا يزال الحوار في ليبيا لم ينته إلى مآل. وتدخلت التحالفات في شمال الجزيرة العربية وجنوبها، عربية وغربية وأميركية وروسية وإيرانية كلها في تفاعلات الربيع العربي، وكل يتخذ من مواجهة الإرهاب سبيلا إلى ممارسة موقف ما منه ومن تداعياته. حاولت هذه الصورة أن تكون أمينة في تتبع الحدث، وإن باختزال شديد، وكان كل همها الإحاطة بها في مجملها ليتأتى لنا تدقيق ملامحها من خلال طرح الأسئلة التي يمكن أن تسهل عملية الفهم والتفسير. أحلم هذا أم كابوس؟ وهل يتيسر تأويله بالسرعة التي تمارس الآن في مختلف القراءات التي تتعجل في الحكم والتقييم؟ ما موقف المثقفين والمبدعين من هذا الحدث؟ وكيف تفاعلوا معه وعبروا عنه في إبداعاتهم المختلفة؟ لا يمكننا الحديث عن العمل الثقافي والإبداعي متصلا بالربيع العربي في ذاته. فصيرورة هذا العمل يمكن التأريخ لها بحدث لا يقل أهمية عنه. إنه هزيمة 1967. ساهمت الهزيمة بصورة كبرى في تحويل مسار الثقافة العربية الحديثة ومختلف تجلياتها الإبداعية عما كان عليه قبل هذه السنة. لقد دفعت الهزيمة إلى إعادة النظر في الشعارات والتصورات المتفائلة بمستقبل: الحرية والاشتراكية والوحدة التي كانت توحد كل القوى السياسية والثقافية بمختلف توجهاتها الأيديولوجية من القومية إلى الشيوعية. وتولد حس عام بأن الهزيمة لم تكن فقط عسكرية ولكنها شاملة لمختلف البنيات والعلاقات. وابتدأت مشاريع إعادة التفكير في التاريخ والتراث والثقافة. وشرع الإبداع الروائي يتجدد محاولا التعامل مع الواقع بكيفية مختلفة عما كان سائدا قبل الهزيمة. نشطت الحركة الثقافية وعمل المثقفون على الانخراط في البحث عن ثقافة جديدة، وإبداع جديد، والعمل على تشكيلهما عن طريق مهادنة النظام أو مساندته، أو في صراع معه. وكانت الثورة الفلسطينية ودعمها بكل الوسائل موحد كل التصورات والتطلعات إلى بناء مجتمع جديد. استفادت بعض الأنظمة (مصر والعراق وسوريا وليبيا) من هذا التطور باعتبارها واجهة للصمود والتصدي. تم تشجيع الكتاب والمجلة وتنشيط الروابط واتحادات الكتاب في مختلف الأقطار العربية، وعزز ذلك بربط أعمق الوشائج مع اتحاد الكتاب السوفيات، واتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين. وكانت مساهمة البحرين من خلال مثقفيها والكويت من خلال تشجيعها للإعلام والمسرح والثقافة مهمة في هذا السياق. ولا يخفى الدور الذي لعبته لبنان في هذا السياق على مستوى النشر. فدخلت الثقافة العربية في مختلف تجلياتها حقبة جديدة. برز ذلك في تطور الدراسات الفكرية والسياسية، والإبداع الروائي والمسرحي والدراسات الأدبية. فتكون بذلك جمهور من القراء على نطاق واسع يؤمن بقيم التغيير والديمقراطية والحداثة. كان المثقفون، بشكل أو بآخر، منخرطين في هذه الصيرورة عن طريق الالتزام أو التعاطف السياسي مع الاتجاه العام الذي كانت تقوده جبهة الصمود والتصدي. ومع ذلك كان المثقفون الأكثر راديكالية معرضين للقمع متى عبروا عن مواقف مناوئة. كانت الحركات الحزبية والنقابية المعارضة قوية في بعض البلدان التي كانت تتمتع بهامش من الديمقراطية (المغرب مثلا، ومصر نسبيا)، وفي أقطار أخرى كانت الحركة النقابية متينة (تونس مثلا). هذا على مستوى الواقع العملي المباشر على الساحة الثقافية. أما بكيفية غير مباشرة، فقد كان التيار الإسلامي يشتغل ويؤطر، محاولا اختراق الحاجز الثقافي اليساري المهيمن، سواء بالتواجد في الساحة الطلابية، أو بالإقدام على نشر أدبياته الدعوية باعتماد الأشرطة الصوتية، إلى أن حدث غزو العراق للكويت، الذي تزامن مع بداية صعود نجم تنظيم القاعدة، في بداية التسعينيات، فكان تركيز الحديث عن الإرهاب منطلق مرحلة جديدة. فما علاقة الثقافة والمثقفين بالربيع العربي في ظل هذه الصيرورة؟ __________ ناقد وأكاديمي مغربي