قبل سنواتٍ طويلة، منذ الثمانينات حين كانت "جدة" تمسح عن جبينها عرق البحر، وتطلق بصرها للسحاب دون أن تخشى المطر ظلّت تنشأ في ميادينها المجسّمات "الكرة الأرضية، الدرّاجة، السفينة..الخ"، يومها كنا نرى فيها بهجة المكان وتفرّد حضارته مقارنة بمدن كثيرة مجاورة، منها "دبي" التي باتت اليوم دانة الدنيا، في ذات الوقت كانت "الرياض" حينها مدينة تتكوّن على شكل حديقة سيَّجتها الصحراء، واستلهمتها التنمية. كبرت "الرياض" وشوارعها، وتمرّدت على تصحّر المكان بالتشجير، وعلى زحام الشوارع بالجسور والأنفاق عبر رسومات هندسية ومعمارية غاية في الإتقان، ف"الرياض" مدينة الأنفاق والجسور، لكنها ظلّت جرداء صامتة لا ترى في جسورها إلاّ توحّش الجدران الخرسانية، وخربشة السيارات المتهوّرة، ولا في ميادينها إلاّ ظلال عابرة على أرصفة التنمية، فكل هذه الأنفاق التي تخترقها ماهي إلاّ هندسات خرسانية تشي بتطور المدينة رغم تصحّرها وحضارتها، رغم تغير ملامحها وتبدّلها وانسلاخها أحياناّ من موروثها أو بعض ما كانت عليه. لطالما تساءلت بينما يتنفّس الزحام عوادم السيارات: ماذا لو أنّ هذه الجدران الخراسانية المعتمة تلبّست بلوحات جدارية تشكيلية كبيرة، وأضيئت بلون الرياض القديمة وعمقها التاريخي فينا؟ ماذا لو أنّ محطّات المترو المنتَظَرة تشكّلت من جداريات تروي "الرياض" عبر مراحلها الزمنية ومحطّاتها التاريخية، نحن بحاجة ماسة لإشاعة تاريخنا فنّا وإضفاء الفن على حياتنا اليومية بينما نعبر الشوارع والميادين، ولا أخال الأمر مكلّفا أو مرهقاً أو حتى نادراً، فبعيداً عن هذا المشروع التطويري أو ذاك إن حدث، ف"الرياض" كانت وما زالت وستظلّ فاتنة أهلها وملهمة كثير من الفنانين التشكيليين والمهتمين برؤى المجسمات وتجميل الشوارع، على رغم ما يبدو من توحّش لها أحيانا نتيجة استلقائها في قلب الصحراء ذات الطقس الوعِر في كل تقلبات فصوله، ف"الرياض" بكل تجلّياتها حملتها فرشاة أكثر من فنان، وشكّلت ملامحها القديمة رؤى كثيرة اختزلها الفنانون في أكثر من لوحة وأعمق من تاريخ. ولا أظن أنّ مشروعاً مبهجاً كهذا سيكلف الكثير حينما نتضافر جميعاً لحب "الرياض"، وربما تبنّاه القطاع الخاص كالبنوك أو الشركات أو غيرها عبر محطّات المترو القادمة، ففي آخر الأمر يمكن استثمار مثل هذه الرؤية إعلانياً وثقافياً معاً، فنحن بالفعل بحاجة ماسة لتكريس جماليات المكان فينا، وتوثيق حضوره الزمني تاريخًا مصوّراً يداهمنا بغتةً، ويأخذنا إلى حاضرٍ مبهرٍ في واقعه، فضلاً عن كون مثل هذا التجميل البصري حكاية هويّة للمكان، تعمّق ارتباطنا به، وتؤسس لحالات عدة من تذوق الفن تاريخًا والتاريخ فنّا. و"الرياض" بكل تاريخها حكاية مدينة ظلّت في دائرة التطوير والتعمير منذ أكثر من أربعة عقودٍ عبر هيئة خاصة لهذا الأمر، لهذا يظل التشكيل البصري لشوارعها وأنفاقها ومحطاتها القادمة، عبر جداريات تتوافق مع هذا التاريخ رؤية جادّة ومؤثرة، وملمحاً كبيراً جداً لأثر هذا التطوير الذي تشهده المدينة يوما بعد يوم، علينا بصدق أن نشيع الفن في شوارعنا لتكون "الرياض" مدينة مضاءة بمجدها القديم، حينما نخترق أرضها ونعبرها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب دون أن ندرك حقيقتها المتصحرة، حيث يحنق الشجر فيها من العطش صيفاً ويرتجف بعضه كثيراً من البرد شتاءً، وعلينا بالفعل أن نجرّ عيوننا إلى موروثها الثري عبر جداريات ترويه لنا، نسترخي عليها قليلاً، بينما تتعالى أبواق الزحام وهي تشتم اليوم بذنب التأخّر عن الغد!