ما بين وقت وآخر يثور البحث حول مدى ملاءمة توحيد القضاء الإداري مع القضاء العام كليهما تحت مظلة وزارة العدل. ومن المعلوم للمتخصصين أن النظم القضائية العالمية تنقسم في هذا الجانب إلى نظامين: أولهما نظام القضاء المزدوج وهو الذي يستقل فيه القضاء الإداري عن القضاء العادي العام ويكون لكل منهما مرجعيته وإجراءاته وقواعده ومبادئه المتميزة عن الآخر. والنظام الثاني هو القضاء الموحد: أي الذي يقوم على أساس وحدة الجهاز القضائي ووحدة القانون المطبق، ولا يعترف للدعوى الإدارية باختلافها عن الدعوى العادية. ولكل من هذين النظامين حسناته وسلبياته، ولا أعتقد أنه من السهل الحكم على أحدهما وفق قانون (الخطأ والصواب) فكلاهما صواب، ولكل دولة ظروفها واعتباراتها. أعتقد ومن واقع تجربتي الشخصية في القضاء الإداري، أن دمج القضاء الإداري مع القضاء العام سيكون له مردودٌ إيجابيٌ كبير على الارتقاء بأداء القضاء الإداري، وتعزيز مكانته، وذلك لأن من المعلوم لدينا في المملكة أن قوة ومكانة إلا أن لي وجهة نظر يمكن طرحها للبحث هنا وذلك بمناقشة الأساس الذي يتمسك به المؤيدون لاستقلال القضاء الإداري عن القضاء العادي، لقناعتهم أن القضاء الإداري بصفته يحكم على جهات الإدارة التابعة للسلطة التنفيذية، فإنه لا يلائم أن يخضع لها ويكون تحت مظلتها الممثلة في وزارة العدل، بل الأقوى والأسلم أن يستقل بنفسه كما هي الحال الآن تحت مظلة الملك مباشرة وفقاً للنظام الخاص بديوان المظالم حالياً. وهذا البحث يذكّرني بالضجة التي سبق أن أحدثها البعض حين تم تكليف معالي وزير العدل السابق الدكتور محمد العيسى برئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وقد استعرضت هذه الفكرة بالرد عليها وبيان عوارها ومدى الخطأ فيها في ذلك الحين، وهي شبيهة بقضية المقال اليوم التي تفترض أن يبقى القضاء الإداري مستقلاً عن التبعية للسلطة التنفيذية. ومدار هذه القضية على (استقلال القضاء) وبالتالي فإن استقلال القضاء المقصود إنما هو (استقلال القضاة في أحكامهم) فلا تملك أي جهة أو سلطة التدخل في الأحكام أو التأثير عليها، إلا وفق تدابير وإجراءات السلطة القضائية من داخلها، المتمثلة في سلطة المحكمة الأعلى ورقابتها على أحكام المحكمة الأقل منها درجة. ووزارة العدل تبقى في كل دول العالم هي الممثلة للسلطة القضائية أمام الحكومة في الداخل والهيئات القضائية في الخارج والمتحدثة باسمها. وليس الحديث حول هذه القضية هو موضوع مقالي اليوم، لذا فأعود إلى فكرة استقلال القضاء الإداري عن القضاء العام فأقول: إنه في ظل الكثير من الإجراءات التطويرية والتنظيمية التي صدرت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – أيده الله – وفي ظل ما نسمعه من استمرار عجلة التطوير وأنه سيكون في مستقبل الأيام الكثير من الخطوات الرامية لتحسين أداء الجهات الحكومية – بما فيها القضائية – وترشيد النفقات والمصاريف، فإن من المناسب إعادة النظر مجدداً في استقلال القضاء الإداري عن القضاء العام، بما يتطلبه ذلك من ميزانيات وتكاليف طائلة تتمثل في أن لكل منهما جهازاً قضائياً مستقلاً يرأسه وزير، ومجلساً قضائياً مستقلاً برئيسه وأعضائه لكل منهما، ومحكمة عليا مستقلة برئيسها وأعضائها، ومحاكم استئناف وابتدائية كثيرة جداً لكل من القضاء العام والقضاء الإداري تتطلب كلٌ منها مبنى مستقلاً ومصاريف يمكن ترشيدها ودمجها في كيان واحد يمثله وزير ومجلس قضاء ومحكمة عليا واحدة. ولا يعني هذا إلغاء العمل بالقانون الإداري ومبادئ القضاء الإداري ومساواة الدعوى الإدارية بالدعوى العادية؛ بل تبقى الدعاوى الإدارية تنظرها دوائر قضائية متخصصة تشكّل في كل محكمة من محاكم المملكة ما يكفي منها، بدءاً من محاكم الدرجة الأولى ومروراً بمحاكم الاستئناف وانتهاءً بالمحكمة العليا. فيكون القضاء كله تحت مظلة واحدة، وينتهي بذلك الكثير من إشكالات التنازع والتدافع في الاختصاص بين القضاء الإداري والقضاء العادي، ويصبح القضاء الإداري في متناول جميع الناس في مدن ومحافظات المملكة، لا كما هي الحال الآن في عدم وجود المحاكم الإدارية إلا في المناطق الرئيسية، ودون أن يتطلب ذلك الميزانيات الضخمة التي يمكن صرفها إلى ما هو أهم في تطوير مرفق القضاء. وأعتقد ومن واقع تجربتي الشخصية في القضاء الإداري، أن دمج القضاء الإداري مع القضاء العام سيكون له مردودٌ إيجابيٌ كبير على الارتقاء بأداء القضاء الإداري، وتعزيز مكانته، وذلك لأن من المعلوم لدينا في المملكة أن قوة ومكانة وزارة العدل وقضاتها، أرفع درجة من قوة ومكانة قضاة ديوان المظالم، وهذه حقيقة يعرفها كل من له صلة بهما. ولا يمنع توحيد مرجعية القضاءين الإداري والعادي في جهاز واحد، من أن يكون لوزير العدل نائب لشؤون قضاء المظالم، فيتولى نفس ما يتولاه رئيس ديوان المظالم حالياً من أعمال. أما النظرية التقليدية التي تقول: إنه لا يلائم تبعية القضاء الإداري للسلطة التنفيذية وهو يقضي عليها، فهي مردودة بأمرين: أولهما: أنه حتى ديوان المظالم حالياً يتمكن موظفوه من مخاصمته قضائياً أمام محاكمه، دون أن يتأثر حق التقاضي واستقلال القضاء بذلك. وثانيهما: أنه سواء كانت تبعية ديوان المظالم لجهاز وزارة العدل أو للملك فكلا الجهازين يتبع للملك في نهاية المطاف. وإني لأطرح هذه الفكرة للبحث عن مدى ملاءمتها، أعتقد جازماً أن المرحلة الحالية وما تتسم به من حاجة لترشيد المصاريف والنفقات، لا يناسبها هذا الهدر في الميزانيات على جهازين قضائيين في كل منهما أربعة وزراء (وزير العدل ورئيس ديوان المظالم ورئيس المحكمة العليا ورئيس المحكمة الإدارية العليا) ومجلسا قضاء بأعضائهما، ومحكمتان علييان بأعضائهما، وعدد كبير من المحاكم المتفرقة في مئات المباني ما بين محكمة عادية أو إدارية. لاسيما وأن ديوان المظالم فيما سبق كان يضطلع باختصاصات قضائية كثيرة رجعت تبعيتها حالياً إلى وزارة العدل، وهي كانت تتولى جزءاً ضخماً من أعمال ديوان المظالم، وهي الدوائر التجارية والجزائية، وفي ظل انسلاخها لوزارة العدل لا أعتقد أن الدوائر الإدارية وحدها تستدعي كل هذه الميزانيات والنفقات. وفق الله ولاة أمرنا لكل خير.. والحمد لله أولاً وآخرا. * محام وقاض سابق في ديوان المظالم لمراسلة الكاتب: maljathlani@alriyadh.net