عندما تصل الجريدة إلى منزلك في كل صباح؛ تأكد أن هناك أشخاصا كانوا يسابقون الزمن من أجل ذلك، وجهوداً كبيرة بُذلت لتحقيق هذه الغاية، على الرغم من توفر وسائل النقل الحديثة في وقتنا الحاضر، ومن أهمها الطائرات، والسيارات المعدة لهذا الغرض للتوزيع بين المناطق والمحافظات، والأخرى التي تنقل مئات بل آلاف الأعداد داخل المدينة الواحدة؛ لتصل إلى مشتركيها مع انفلاق الصباح. ولو عدنا إلى الوراء بحوالي نصف قرن، وسألنا أنفسنا كيف كانت تصل الجريدة إلى المشتركين مقارنة بوسائل النقل الحديثة والمتطورة؟ لوجدنا في ذلك ذكريات جميلة صاحبها عدد من المواقف الطريفة التي مازالت في أذهان الموزعين الأوائل، وكذلك المشتركين، حينما كانت الجريدة في ذلك الزمن لا تتجاوز قيمتها الأربعة قروش، والتي كانت تعني في ذلك الوقت مبلغاً جيداً من المال يغري باستمرار الصحيفة في الصدور، ويغري كذلك القارئ لاقتنائها. عند الحديث عن انتشار الصحف في بلادنا مع بداية القرن المنصرم لابد أن نشير إلى البدايات المتواضعة التي صاحبت تأسيس هذه الصحف، والتي واجهت صعوبات كبيرة جداً من حيث الطباعة أو التحرير أو التوزيع، حيث تجد مثلاً طاقم التحرير بما فيهم رئيس التحرير يتواجدون جميعاً في غرفة صغيرة لإعداد المواد الصحفية، وتشاهد المنفذين يصفون الأحرف بالرصاص، والمطبعة بلون واحد، ورغم تلك البدايات استطاعت بعض الصحف أن تحجز لها مكاناً لدى القارئ منذ وقت مبكر، وبعضها لم يُكتب لها النجاح لأسباب فنية ومعظمها مادية فتوقفت إلى الأبد، فيما تأسس في وقت لاحق العديد من الصحف والدوريات وكتب لها النجاح واستمرت إلى يومنا هذا. رئيس التحرير والمحررون يتواجدون جميعاً في غرفة صغيرة والمنفذون يصفون الأحرف بالرصاص والمطبعة بلون واحد بدايات الصحف ولعل أول جريدة رسمية عرفتها البلاد في عهد المؤسس الراحل جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- هي جريدة "أم القرى"، حيث صدر العدد الأول منها يوم الجمعة الخامس عشر من جمادى الأولى عام 1343ه، لتكون أولى الصحف في عهد المملكة، والصحيفة الرسمية للدولة ولا تزال. واشتمل العدد الأول من مواد الصحيفة على "بلاغ مكة" لبيان أهمية الوحدة بين المسلمين، ثم عدد من الأخبار والبيانات الرسمية والأحداث المحلية والأنباء الحكومية، كذلك أخبار عن الأمطار وبعض الإعلانات، كما تضمن العدد نقداً لبعض الأمور المعيشية، حيث تحدثت عن ارتفاع أسعار الأقوات الضرورية والأحوال التي لا تستوجب هذا الارتفاع، وأرجعت سبب هذا التصاعد إلى بعض المحتكرين، حيث أرادت الصحيفة أن تلفت نظر إدارة البلدية إليهم. وكانت الحجاز أول مناطق المملكة التي عرفت الصحافة فقد سبق صدور صحيفة "أم القرى"، وذلك في عام 1301ه، عند صدور دورية "حجاز ولايتي سلنامة"، التي أصدرتها الحكومة العثمانية بالتركية، وذلك عام 1301ه، وهي عبارة عن بيان دوري حكومي ظهرت منه أعداد خمسة فقط، حيث جاء ذلك في كتاب (دليل الصحافة العربية) ل"ناجي نعمان"، تحت عنوان (المملكة العربية السعودية)، الذي ذكر أنه قد ظهرت بعدها "حجاز" بالتركية والعربية عن الولاية العثمانية في عام 1326ه في مكة المكرمة، تلتها "شمس الحقيقة". وبعد توحيد المملكة كان هناك صحف ما قبل نظام المؤسسات الصحافية، إذ صدر عدد من المطبوعات بعد صدور جريدة "أم القرى" 1343ه، ومجلة "اليمامة"، وذلك قبل صدور هذا النظام في 24 شعبان 1383ه -13 يناير 1964م-، والذي نصّ على أن "المؤسسة الأهلية للصحافة هي مشروع تقدمه مجموعة من المواطنين، تمنحها الدولة امتياز إصدار صحيفة أو أكثر، ولوزارة الإعلام الحق في الاعتراض على اسم أي واحد من المتقدمين بطلب إنشاء مؤسسة". شركات التوزيع نقلت الصحف في مواعيد زمنية محددة واستقبلها القارئ مع إشراقة الصباح الأولى ثلاث مراحل ولم تعرف بلاد نجد في المملكة الصحافة إلاّ في أواخر أيام الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، حين صدرت في الرياض مجلة "اليمامة" سنة 1372ه لصاحبها "حمد الجاسر" عام 1372ه، فيما عرفتها الدمام عبر "أخبار الظهران" عام 1374ه، والخبر عبر "الإشعاع" عام 1375ه، والأحساء عبر "هجر" عام 1376ه، والمبرز عبر مجلة "الخليج العربي" عام 1376ه، وبريدة عبر "القصيم" عام 1379ه، والطائف عبر "عكاظ" عام 1379ه. ومرت الصحافة في المملكة بثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: مرحلة صحافة الأفراد (1347ه- 1378ه)، الثانية مرحلة دمج الصحف (1378 ه- 1383 ه)، الثالثة مرحلة نظام المؤسسات الصحفية الأهلية ومستمرة إلى الآن. إعلان أسماء الناجحين في الصحف يزيد من حصة التوزيع وبقالات القرى تبيع النسخ «البايتة» أقدم موزع ويُعد "عبدالله بن سيف" من أقدم موزعي صحيفة "الرياض"، حيث واكب مرحلة التأسيس، وقد كرّمته الصحيفة في يوم احتفالها بالفوز بجائزة أفضل صحيفة عربية 2010، والذي يعد شاهداً على تطورها، حتى أضحت واجهة مشرقة للصحافة السعودية عربياً ودولياً، حيث وقف "ابن سيف" شاهداً، لا أحد ينتقص من روايته، حتى وإن أتى من الصفوف الخلفية ليروي حكاية عمرها (50) عاماً؛ ليرى أبناء هذا الجيل كيف كانت البدايات صعبة وقاسية لجميع الصحف، ومع ذلك استمر العمل، وواصل أبناء المهنة المخلصين كفاحهم. وقال "ابن سيف": بدأت خدمتي في التوزيع منذ كان عمري (23) عاماً، وكان ذلك العام يصادف 1383ه، وكانت تصدر جريدة الرياض آنذاك بمسمى صحيفة "اليمامة" كل يوم جمعة فقط، مضيفاً أن موقع مكتب الجريدة كان في شقة صغيرة مكونة من أربع غرف في "شارع الثميري" مقابل "أصواف العطار" حالياً، بينما تقع مطبعة الجريدة في "شارع المرقب" المسمى سابقاً "هميتة"، مبيناً أنهم كانوا يستلمون الجرائد في الصباح من المطبعة والبدء بتوزيعها على المكتبات والدوائر الحكومية بواسطة "السيكل" -الدراجة الهوائية-، كل على حسب العدد المنصوص عليه من قبل المطبعة وإدارة المشتركين، ذاكراً أنهم كانوا يسلمون بعض الأفراد في منازلهم داخل الأحياء بمدينة الرياض، مشيراً إلى أنه كان يتقاضى (150) ريالاً فقط حتى مرّ عام ونصف، ثم عرض علي مدير مكتب جريدة الندوة آنذاك "مصطفى الطاهر" العمل لدى الجريدة مقابل (200) ريال شهرياً فلم أتردد وقبلت العمل معهم لمدة ثمانية أشهر. وأضاف أنه مع بداية صدور جريدة "الرياض" عام 1385ه اتصل بي الأستاذ "عبدالله العطاس" والتقيت مدير إدارة الجريدة، واعتمد مرتبي بمبلغ (300) ريال شهرياً و-دراجة نارية-، إضافةً إلى (60) ريالا مصاريف الوقود. وأشار إلى أن عملية التوزيع في مدينة الرياض مقسمة على أربعة أشخاص، وكل شخص تختلف الكمية المطلوب توزيعها عن الآخر، مضيفاً أن الشوارع التي تغلب فيها عملية التوزيع هي "شارع العصارات"، "التلفزيون"، "الخزان"، "دوار سلام"، "عليشة"، "الشميسي"، "الناصرية"، مبيناً أن عملية التوزيع تبدأ من الصباح وتنتهي في الثانية عشرة ظهراً، وهي في النهاية ترجع لكل شخص على حسب جهده، ذاكراً أنه من المواقف الطريفة التي صادفته خلال فترة عمله في التوزيع، هو تغيبه عن العمل فترة زواجه، وكان مسؤول التوزيع "عبدالله الفراج" يأتي إلى منزله يطرق الباب، حيث كان يراه من فتحة جدار السطح -الطرمة- ولم يجبه، ذاكراً أنه عند حضوره إلى المؤسسة في اليوم التالي يتعذر بالتعب، إلاّ أنه يجد عمل الأمس بانتظاره، حيث كان يوزعه مع اليوم الذي يليه. وذكر "ابن سيف" موقفاً آخر، حيث كان هناك مباراة بين ناديي الهلال والنصر، وكان يوزع الجريدة صباحاً كالمعتاد، وقد زيّن الدراجة باللونين الأزرق والأبيض، إلاّ أنه تفاجأ بمجموعة من الأشخاص في "شارع الخزان" -قرب وزارة الخارجية سابقاً- يعترضون طريقه ويجبرونه على الوقوف، موجهين تساؤلاً هل أنت مشجع هلالي أم نصراوي؟، فقال لهم: "لا أشجع أيا من الناديين"، خوفاً على نفسه من الضرب، والصحيح أنه مشجع هلالي. مشقة السفر وكانت الجرائد مصدر جذب للمتسوقين في البقالات التي تبيع المواد الغذائية في مطلع الثمانينيات والتسعينييات الهجرية، ومن أجل ذلك عمد العديد من أصحاب "البقالات" إلى إحضار الجريدة من المدن القريبة التي تصدر منها، وذلك بالسفر إلى مسافات طويلة قد تصل أحياناً (400) كم ذهاباً وإياباً من أجل هذه الغاية، ومن أجل أيضاً توفير اللبن الطازج الذي كان الناس يحرصون على الحصول عليه طازجاً، مما وفر لهذه المحلات الربح الوفير الذي يهون معه التعب ومشقة السفر، وكان الناس -خاصةً من جيل المثقفين الذين يحرصون على متابعة ما ينشر من المقالات الأدبية والشعر- يحجزون الجريدة قبل وصولها، حيث أن الأعداد تنفذ بسرعة. أسماء الناجحين كما كان الطلاب قديماً وعدد من أولياء أمورهم يصطفون "طوابير" أمام بوابات الجرائد ليلاً في المدن التي تصدر فيها من أجل تلقف أول الأعداد التي تحمل أسماء الناجحين، خاصةً في المرحلة الثانوية وذلك قبل منتصف الليل، فقد تعودت الجرائد على ذلك في نهاية كل عام دراسي، حيث تعلو تباشير الفرح على محيا من ظهر اسمه ضمن الناجحين، فيما تسود الدنيا في أعين آخرين لم يحالفهم الحظ بالنجاح، فينصرفوا وفي نفوسهم حسرة على ضياع جهد عام كامل، عاقدين العزم على المذاكرة والجد والمثابرة في إجازة الصيف، من أجل النجاح في المواد التي أكملوا فيها، ومن أجل اللحاق برفاقهم الخريجين من المرحلة الثانوية، وكم تكون البشرى سعيدة لمن يتم الاتصال به في قريته وإخباره أنه قد نجح وظهر اسمه ضمن الناجحين. أخبار بايتة وكان وصول الجرائد في القرى البعيدة عن مقر الجريدة قديماً يأتي عن طريق البريد، لكن كان هناك مشكلة وهي تأخر وصولها من يومين إلى ثلاثة، حسب وصول البريد، لكن ذلك لم يثن الناس والموظفين من متابعة الجريدة، وإن كانت أخبارها قديمة، أو كما يقولون "بايتة"، فيجدون فيها متعة القراءة، بل إن هناك من الموظفين في المدن الكبرى من البلاد كالعاصمة الرياض من يجمع أعداد الجرائد خلال الأسبوع، ويحضرها إلى أقربائه في القرى في إجازة نهاية الأسبوع، وكم تكون فرحتهم بها كبيرة، فهم يعدونها من الهدايا القيمة التي تقدم لهم، فتراهم ينهمكون في قراءتها، وإهداء بعضها بعد القراءة لمن يعز عليهم، والبعض الآخر يحتفظ بها في مكتبته بجانب الكتب. ابن سيف: أكثر النسخ توزيعاً في مدينة الرياض قديماً «شارع العصارات»، «التلفزيون»، «الخزان»، «دوار سلام»، «عليشة»، «الشميسي»، «الناصرية» شركات توزيع وبعد تزايد الصحف الصادرة في المملكة، وكثرة المشتركين الذين وصل عددهم إلى عشرات الآلاف، بات أمر توزيع الصحف للمشتركين عن طريق الموزعين لتلك الصحف في مختلف مناطق المملكة أمرا بالغ الصعوبة، مما دعا إلى تأسيس شركات توزيع تهتم بهذا الجانب، ففي نوفمبر عام 1983م اعتمد السادة "هشام" و"محمد" "علي حافظ" قرار انطلاق خدمات الشركة السعودية للتوزيع، وتم إنشاء نظام محكم للتوزيع انطلاقاً من خبراتهم التراكمية في مهنة الصحافة والتوزيع، والتي تعود بدايتها إلى عام 1932م، وقد أكمل صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز -رحمه الله- ومن بعده صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز في ترسيم قواعد الشركة وإنجاحها، والوصول إلى النجاحات والشراكات التي نراها اليوم، كما انبثقت فكرة إنشاء شركة موحدة ومتخصصة لتوزيع الصحف والمجلات والكتب من خلال الاجتماعات الدورية للمديرين العامين للمؤسسات الصحفية السعودية ورؤساء تحرير الصحف والمجلات السعودية, وذلك لتوفير الجهد والوقت والمال، الذي كان يذهب هدراً دون أن يتحقق للصحف والمجلات فرصة التوزيع المتطور الذي تسعى إليه. من هذا المنطلق كانت الرؤية تشير إلى ضرورة إنشاء شركة تُبنى على أسس علمية وعملية يناط بها توزيع الصحف والمجلات على أوسع نطاق ممكن, وتضمن للإصدارات التي توزعها التواجد في جميع مدن وقرى المملكة, وتكسبها ميزة الانتشار والتداول، بحيث تتواجد أمام القارئ بأفضل مما كان عليه الوضع سابقاً، وبعد استكمال الدراسات الفنية والإجراءات الإدارية والرسمية اللازمة باشرت الشركة الوطنية للتوزيع أعمالها في عام 1985م.