يأتيكم حوارنا الحضاري اليوم وأنا في طريقي إلى نيو دلهي في الهند للمشاركة في مؤتمر غرب آسيا حول آخر تطور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والخليج. وسأشارككم محتوى ورقتي وانطباعاتي حول المؤتمر وما دار فيه من حوار، بعد أن أعود. محور جلسات المؤتمر هو البحث في تداعيات صراع الإيديولوجيات ومستجدات الشرق الأوسط ما بعد الربيع العربي، خاصة منطقة الخليج العربي وما يعنيه ذلك لمنطقة غرب آسيا. وبلا شك كل ما يؤثر في منطقة الخليج العربي اقتصاديًا وسياسيًا سيؤثر في الكثير من دول آسيا خاصة التي تعتمد على تصدير منتجاتها الاستهلاكية إلى دول الخليج، أو استيراد النفط والغاز الخليجي في توليد الطاقة، مثلها مثل غيرها من البلاد الصناعية في مختلف أنحاء العالم. وفوق ذلك تعتمد على إيرادات الملايين من اليد العاملة الآسيوية التي تستقدمها الدول الخليجية للعمل وتشغيل مؤسساتها الكبيرة والصغيرة. وبقدر ما تبدو نتائج المتغيرات الاقتصادية قابلة للتكهن وتقدير المتوقعات في الساحة المحلية والجوار القريب، أو بعيدًا في الأطراف الأخرى للعلاقات، فإن العلاقات السياسية والتحالفات القادمة، التي ستكون خاضعة لمتغيرات الأفكار والرؤى، وكذلك مستجدات مساعي الهيمنة السياسية عبر تسييد أو دعم إيديولوجية متطرفة أو أخرى، ليست واضحة. وقد تعرضت المنطقة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدئًا بتأسيس إسرائيل بناء على إيديولوجية صهيونية، لهزات سياسية وإيديولوجية متوالية تم فيها تسييس الدين واتخاذه بديلاً عن مساعي الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي وتمكين المواطن من القيام بدوره في البناء. مرحلة العقود الأخيرة بعد تكون خلايا الإخوان، وثورة الخميني في إيران، وحركة الجهيمان في حصار مكة جلبت معها تغيرًا فكريًا في علاقة مكونات الدولة بعضها ببعض، وغرست بذور إيديولوجية التمحور المذهبي بدلاً من بناء الشعور بالمواطنة العامة وحماية حقوق الإنسان كمواطن خارج انتمائه الفئوي. وأنتجت أحزابًا وخلايا مستترة في كل دولة تعمل لمصلحة انتمائها الإيديولوجي على حساب انتمائها لموطنها الأم. من ذلك حزب الله في لبنان، ونشاط الإخوان، وموالي نظام الملالي، في دول الخليج. ركزنا كثيرًا في العقدين الأخيرين على ضرورة تكوين القدرة على الدخول في «حوار حضاري» بين المواطنين في أي دولة، وكذلك بين الدول في أي جوار. لكي لا يتدهور التفاعل إلى جدل وصراع مرئيات متطرفة، ومنطلقات فردية وفئوية منغلقة على رغبات الذات بين فئات لا ترى سوى نفسها في مرأة البقاء ولا تعترف بحق المختلف عنها في الوجود والحياة، وننتهي بحروب مدمرة يتناحر فيها الأطراف، بدلاً من التعاون لبناء «جوار حضاري» يتسع لإرضاء الجميع. صراع الإيديولوجيات المستترة بشعارات المثالية يستمر باستمرار التفسيرات التي تغش البسطاء وتقود إلى التشبث بالمنطلقات القاصرة. ولا يكفي، لتحقيق تفاصيل الجوار الحيوي الحضاري فعليًا على أرض الواقع، أن نتخطى الجدال إلى التظاهر بالحوار من منطلق إقناع الآخر دون الإصغاء إلى ما لديه بصدق.. ولعل أسوء أيديولوجيات ابتلي بها الشرق الأوسط هي تلك التي تمجد بناء امبراطورية ما تحت مبرر مختلق يتشبث بفكر يتظاهر بمثالية الرغبة في «إنقاذ» العالم، أو فئة منه، عبر تجريم أو تهميش أو تكفير الفئات الأخرى. فكر فئوي قد يكون عقديًا دينيًا أوطائفيًا مذهبيًا، أو إقصائيًا عنصريًا أو تهميشًا اثنيًا، أو طموح فرد مستبد يتحول حلمه بالسيطرة إلى كابوس للمجموع أو إلى فئة منه. من هنا ظهرت انحرافات الحركات التي تبدأ إصلاحية تجذب دعم المجموع المتعطش للتصحيح الطبقي الاقتصادي، والتعايش القائم على كرامة الإِنسان، لتنتهي بأوضاع تقضي على التعايش وتفرض الاستبداد، واستغلال دكتاتور يسخر الفئة لخدمته وإهانة كرامة الوطن كله. وسأعود لمواصلة الحوار في مقال قادم.