×
محافظة المنطقة الشرقية

الجيش العراقي يطبق حصاره على الفلوجة

صورة الخبر

الحدود هي كلمة السر في المعرفة والتمرد على أوضاع اجتماعية وسياسية، ترفضها فاطمة المرنيسي، بوعي الطفلة، التي كانت تتعلم دروسها الأولى، حيث النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طوال النهار، متجولات في طرق خيالية. كان المغرب منقسماً بين الفرنسيين والإسبان، حتى أن من كان يريد التوجه نحو الشمال، عليه أن يحصل على جواز سفر، لأنه يدخل المغرب الإسباني، وإذا شاء التوجه نحو الجنوب، عليه أن يحصل على جواز مرور آخر، إذ إنه يجتاز حدوداً للدخول إلى المغرب الفرنسي، إنها الحدود مرة أخرى في بلد كان موحداً طوال السنين، الحدود ذلك الخط الوهمي في رؤوس المحاربين. العمة كانت تمتلك من الوعي ما تغرسه بداخل الطفلة، التي تقول في موضع آخر من سيرتها الذاتية: سأكون قادرة أنا الأخرى على إزالة الحدود تلك العمة كانت متأكدة أن كل واحدة تملك في داخلها نوعاً من السحر، كانت تقول: حين تكونين سجينة دون حماية وراء الأسوار، ومحاصرة في حريم، تحلمين بالانفلات، يكفي أن تعبري عن ذلك الحلم، لكي ينفجر السحر وتختفي الحدود، بإمكان الأحلام أن تغير حياتك، كما أن بإمكانها أن تغير العالم في النهاية، التحرر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك الصغير، وتسرعين في ترجمتها إلى كلمات، والكلمات لا تكلف شيئاً. من خلال العمة عرفت فاطمة الصغيرة أن الجميع يملكون قوة داخلية، وما عليهم إلا التصرف بها، كما عرفت من شامة التي كانت تدير العروض فوق سطح البيت أن الهدف من كل عرض هو مؤازرتكم لكي لا تتخلوا عن الأمل وتؤمنوا بأن تغيير حياتكم أمر ممكن. التربية هي أن تتعلم كيف تميز الحدود، كان ذلك الدرس الأول أيضاً في الكتاب، كانت فاطمة في الثالثة من العمر حين أرسلت إليه، وتعلمت: أن تكون مسلماً يعني أن تحترم الحدود، أي أن تطيع إذا كنت طفلاً وهكذا بدت فاطمة مشغولة بالحدود طوال عمرها، وقد استبد بها القلق حين أصبحت عاجزة عن تبين الخط الهندسي الذي ينظم عجزي على حد تعبيرها. تقول المرنيسي: عشت طفولة سعيدة، لأن الحدود كانت واضحة، وكان أولها العتبة التي تفصل حجرة أبي وأمي عن وسط الدار، لم يكن يسمح لي باجتياز العتبة للعب في وسط الدار خلال الصباح لكنها تعلمت من الأم ضرورة مضغ الكلام قبل النطق به، وهكذا قالت لها الأم: أديري لسانك في فمك سبع مرات وأنت تزمين شفتيك قبل النطق بكلمة، إذ إنك تخاطرين بنفسك إذا ما أطلقت الكلام الحقيقة أنه الدرس الأول المستمد من ألف ليلة وليلة، فكلمة واحدة في غير محلها قد تجلب المصائب. كانت طفولة فاطمة المرنيسي معجونة بالخروجات الصغيرة بطبيعة الحال، حين يتحول سطح البيت إلى مسرح صغير أو ساحة للغناء، حيث كانت أسمهان صوتاً محبباً للجميع، وهنا تضعنا فاطمة في مقارنة بينها وبين أم كلثوم قائلة: كنا كثيرا ما نسمع أغاني أم كلثوم القومية، المطربة المصرية الكبيرة، التي كانت تشحذ الهمم لمقاومة المحتل الأجنبي، يا له من فرق بين أم كلثوم الفتاة الفقيرة ذات الصوت الذهبي، القادمة من إحدى القرى المجهولة في مصر، التي حققت النجاح بفضل الانضباط والعمل الدؤوب، وبين أسمهان الأرستقراطية التي لم تبذل جهداً لنيل الشهرة، كانت أم كلثوم تتوفر على هدف في الحياة وتعرف ما تريده وما تسعى إليه، في حين كانت أسمهان تهز قلوبنا بضعفها البادي. وتواصل المرنيسي المقارنات، فأم كلثوم كانت تهتم بكل ما هو عادل ونبيل، تعبر عن رغباتنا القومية في التحرر، إلا أن النساء لم يكنّ مشغوفات بها كما هو الشأن بالنسبة لأسمهان، كانت أسمهان على عكسها تماماً، مخلوقة نحيفة، مظهرها يوحي بأنها ضائعة غارقة وسط السحاب، متجذرة في الأحلام أكثر من ارتباطها بواقع يتجاهلها، كانت بالغة الأناقة في قمصانها الغربية المفتوحة، وتنانيرها الضيقة، لم تكن مهووسة بالأمة العربية، وكانت تتصرف كما لو أن القادة العرب الذين تتغنى بهم أم كلثوم لا يوجدون. ما كانت تريده أسمهان هو أن تحصل على أزياء جميلة، وتضع وروداً على شعرها، وتحلم وتغني وترقص، أسمهان حسب رؤية المرنيسي لم تكن إلا بحثاً مستمراً ومأساوياً عن لحظات سعادة بسيطة، ولكنها آنية، والنساء العربيات اللائي حكم عليهن بالرقص وحيدات في ساحات مغلقة معجبات بها، لأنها تجسد حلمهن وكانت أسمهان موضوعاً للعروض المسرحية التي كانت تؤدي على سطح البيت، وتجعل فاطمة الصغيرة تؤكد: سأعيد الاعتبار لأسمهان، بإمكانها ألا تكون مجرد ضحية، ستزهر ملايين من أسمهان، ولن يكنّ مجبرات على الموت في الثانية والثلاثين، بمكان بعيد ضحية حادث سيارة يطبعه العبث. كان سطح البيت حياة كاملة، عرفت من خلاله فاطمة الكثير، عرفت أن الأم كانت مغرمة بقاسم أمين، وبما أنها لا تعرف القراءة، فكانت ترجو الأب أن يقرأ لها مقاطع من كتاب تحرير المرأة الذي كان يساومها على أن تعد له العصير الذي يفضله، مقابل أن يقرأ لها، وحين يصل إلى المقاطع المهمة كان يرمي الكتاب غاضباً ،ويندد بقاسم أمين الذي يهدم البيوت العربية، ويصرخ قائلاً: هل أنا محتاج لهذا البليد الدخيل من الأقطار المصرية لكي أقترب من زوجتي أو لكي تكون لطيفة معي؟ أرفض تصديق ذلك. السيرة التي بدأت بالحديث عن الحدود تنتهي بالكلام عن الحدود أيضاً، وبالسؤال: لماذا لا نستطيع الإفلات من قانون الاختلاف؟، وتكون الإجابة أن الحدود الحقيقية تقسم العالم إلى قسمين، وهي ترسم خطوط السلطة، لأن وجود الحدود أينما كانت، يعني بأن هناك نمطين من البشر، على هذه الأرض، التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب، والضعفاء في جانب آخر. ماذا تنتظر من طفلة، أول ما تفتح وعيها، كان على كلمة الحدود بكل معانيها، داخل وخارج الذات، لا بد أن تكون هذه الطفلة هي فاطمة المرنيسي (1940-2015) المغربية المشاكسة، التي كتبت مذكراتها أو سيرتها الذاتية الطفولية، تحت عنوان نساء على أجنحة الحلم حيث تفتتح هذه السيرة بجملة تقول: ولدت في حريم فاس، المدينة المغربية التي تعود إلى القرن التاسع وكأنها تريد أن تمنحنا مفاتيح تلك الطفولة الموزعة بين شقاء الحريم وهيمنة التقاليد في التاريخ.