يمتد الحديث هنا لما سبق التطرق إليه في المقالين السابقين، بالتركيز على الحلول اللازمة للإسراع بإنهاء الأزمة الإسكانية، والقضاء على تأثرها السلبي بما أفضت إليه التشوهات الكامنة في السوق العقارية، وضرورة تبني سياسات وبرامج للإسكان والتمويل العقاري تتكامل في توجهها مع السياسات والإجراءات، التي استهدفت وتستهدف محاربة تشوهات السوق العقارية، لعل من أبرزها إقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن والمحافظات، ممثلا الأداة الأكثر جدية ضد احتكار الأراضي داخل المدن، الذي سيكون وحده هذا النظام الفاعل في مواجهة أخطر تشوه متضخم في سوق العقار، المتمثل في احتكار نحو 90 في المائة من مساحات الأراضي داخل المدن، نتج عنه ما نتج من آثار بالغة الضرر على الاقتصاد والتنمية والمجتمع. نحن اليوم في مواجهة أزمة تنموية معقدة، امتدت تداعياتها أو تشوهاتها إلى كثير من المتغيرات في حياتنا، ولزيادة فعالية التصدي لآثار تلك الأزمة التنموية (أزمة الإسكان)، ولإنجاح الجهود المبذولة وتحسين استغلال الموارد المتاحة، فلا بد أن تأتي الحلول متكاملة وداعمة لبعضها بعضا، وضرورة عدم تضاربها أو تسببها في إيجاد ثغرات قد تفاقم من حجم الأزمة الأولى في المرحلة الراهنة. حينما أقرت زيادة حجم القرض العقاري في سنوات مضت، لم يترتب على تلك الزيادة إلا زيادات متتالية في أسعار الأراضي والعقارات، ثم لحقتها في الارتفاع تكاليف الإيجارات، لتتسبب تلك الآثار مجتمعة في زيادة معدل التضخم، وتآكل الدخل الحقيقي للأفراد، وزيادة استقطاع أقساط القروض العقارية، إضافة إلى بقية أقساط القروض البنكية الأخرى من الأجور الشهرية للأفراد، كما لم تؤدِ تلك الزيادة في معالجة أزمة الإسكان، بل زادت بكل أسف في تفاقمها أكثر مما سبق إقرار تلك الزيادة، وهو أمر كان متوقعا بدرجة كبيرة جدا، لأن (زيادة القروض العقارية) لم تكن على الإطلاق هي الحل الذي ينتظره علاج أزمة الإسكان، التي كانت تتغذى طوال العقدين الماضيين من تفاقم تشوهات سوق العقار، أول تلك التشوهات (زيادة احتكار الأراضي) وثانيها (زيادة المضاربات على الأراضي)، وزيادة التمويل العقاري كانت تغذي بامتياز اتساع سيطرة الاحتكار والمضاربة، وتسهم بصورة رئيسة في تضخم وتشكل الفقاعة السعرية في السوق العقارية المحلية، (الأسباب الرئيسة لتشكل الفقاعة السعرية في أي سوق هي: (1) عدم تماثل معلومات السوق لدى أطرافها كافة. (2) زيادة تدفق رؤوس الأموال والمدخرات الباحثة عن فرص مجدية للاستثمار أو المتاجرة (المضاربة). (3) زيادة إيجاد الائتمان البنكي داخل السوق العقارية. ويتفاقم خطر زيادة التمويل العقاري والإفراط فيه بأي صيغة كانت، مع العمل على تسهيل الحصول عليه من قبل الأفراد، دون معالجة الأسباب الفعلية التي أدت إلى تضخم التشوهات الكامنة في السوق، قبل أن نتحدث عن تضخم أسعار الأصول وتكلفة إيجاراتها، كون الأخيرة ليست إلا أحد نتائج تلك التشوهات. وتزداد مخاطر زيادة التمويل العقاري بصورة أكبر بكثير مما سبق، إذا تزامنت مع التطورات التالية: (1) بدء المعالجة الحقيقية للتشوهات الهيكلية في السوق العقارية، وأهم أدوات تلك المعالجة في حالة سوقنا العقارية الإقرار التاريخي لنظام الرسوم على الأراضي، الذي سيقضي على أكبر تشوه عانته السوق طوال سنوات طويلة. (2) انكماش مستويات السيولة في الاقتصاد المحلي، نتيجة انخفاض أسعار النفط، وزيادة الحاجة إلى توظيف المتاح منها في قنوات الإنتاج المجدي، أي تحسين مستوى الاستفادة منها بأعلى درجة ممكنة. (3) بدء الأسعار المتضخمة للأصول العقارية بالانخفاض، وعودتها إلى مستوياتها العادلة سعريا. تمتد تلك المخاطر حال وقوعها إلى التأثير على استقرار الاقتصاد الوطني والقطاع التمويلي بالدرجة الأولى، وإلى التأثير على مستوى دخل الأفراد عبر زيادة حجم المديونيات على كاهلهم، في الوقت الذي تتعرض خلاله الأصول العقارية المشتراة إلى تآكل قيمتها السوقية، نتيجة انخفاض أسعارها، ما قد يؤدي إلى تعثر أفراد المجتمع عن سداد مديونياتهم للقطاع التمويلي، وبالتالي انكشاف الأخير أمام مخاطر كبيرة كان في منأى منها لعقود طويلة، أبقته أحد أكثر القطاعات الاقتصادية الأكثر صلابة واستقرارا، ولنا فيما حدث قبل الأزمة المالية العالمية نهاية 2008 كثير من الدروس والعبر التي يجدر بنا أخذها في عين الاعتبار. إنه من الخطورة إلى أبعد درجة؛ أن يظن البعض أن حلول أزمة الإسكان دون انخفاض الأسعار المتضخمة للأصول العقارية، يمكن أن يتحقق على حساب توريط قطاعات مالية واقتصادية أخرى بالغة الأهمية في تحمل ثمن معالجة تلك الأزمة، وهو أكثر ورطة أيضا إذا جرى ذلك على حساب أفراد المجتمع، عبر توريطهم أيضا في تحمل ديون وقروض هائلة لقاء شراء أصول عقارية هي في الأصل تتجه أسعارها السوقية إلى الانخفاض! لم تتجاوز مساهمة قروض صندوق التنمية العقاري منذ تأسيسه إلى اليوم في تلبية احتياجات المجتمع من المساكن 16 في المائة، فيما وقفت زيادة حجمه فترة بعد فترة في زيادة مستويات الأسعار السوقية، ووفقا لمنظومة الاقتصاد الراهنة، التي يعول خلالها على القطاع الخاص بدرجة أكبر في صنع الاستقرار الاقتصادي، وتعزيز التنمية الشاملة المستدامة بصورة عامة، وفي النهوض بالسوق العقارية والإسكان بصفة خاصة، يجدر أن يأخذ دور صندوق التنمية العقاري مسارا آخر مختلفا تماما عما عهده طوال أكثر من 40 عاما مضى، لعل من أبرز سمات ذلك الدور الجديد، أن يعظم من دوره في تمويل شركات التطوير العقاري، بالصورة المتوازنة التي تعزز من توجه ملاك الأراضي نحو تطويرها، وزيادة ضخ المنتجات الإسكانية في السوق، الذي بدوره سيؤدي إلى توازن العرض والطلب، وإلى عدالة الأسعار، التي تكون في متناول أفراد المجتمع كافة، والعدالة المنشودة هنا؛ ألا تتجاوز أسعار تلك المنتجات السكنية بالنسبة للأفراد مضاعف ستة إلى ثمانية أضعاف دخلهم السنوي، لا كما هو قائم في الوقت الراهن بمضاعفات تتجاوز سقف الـ 30 عاما أو أكثر! إن زيادة التمويل العقاري، أو تسهيل إجراءات الحصول عليه في ظل الظروف الراهنة، لن تؤدي إلى حل أزمة الإسكان، بل تزيد من تعقيدها، وما جرى على أرض الواقع طوال العقدين الماضيين أكبر شاهد على ذلك! فلن يترتب عليه سوى زيادة في الأسعار، وزيادة أكبر في حجم المديونيات على الأفراد، وزيادة أكبر منهما على كاهل الدولة كتكلفة للحلول، ومواجهة كأداء لآثار تلك الأزمة المفتعلة من الأصل، عدا زيادة المخاطر على أحد القطاعات الاقتصادية ممثلة في القطاع التمويلي، في الوقت الذي لن يستفيد من تفاقم كل تلك المخاطر سوى شريحة ضيقة جدا من المجتمع، ممثلة في ملاك الأراضي والعقارات، وهو الطريق الوعر الذي لا قدرة لأي اقتصاد مهما بلغت قوته وثرواته على تحمل آثاره الخطيرة جدا! والله ولي التوفيق. نقلا عن الاقتصادية