يعتبر الناقد السعودي محمد العباس من أهم الأسماء النقدية التي تواصل الجهد النقدي في مجال السرد وتقرأ المنجز الروائي محليا وعربيا. وللعباس أراء تثير الاختلاف والبعض يرى أنها تحمل التطرف النقدي والبعض يراها تلامس عمق النص السردي. وفي هذا الحوار لثقافة اليوم نتأمل أراء ومواقف الناقد محمد العباس في الرواية العربية: * برغم الاحتفالية التي يتحصل عليها الروائي العربي سواء من الإعلام أو المؤسسات الثقافية إلا انك ترى بأن الرواية العربية اليوم ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها حالة إبداعية. هذه الرؤية ما مبررها وهل تشمل كل منجز الرواية في الوطن العربي؟ - لكل ظاهرة استثناءات. والاستثناء الإبداعي في حقل الرواية العربية اليوم قليل جداً. ومبرر ذلك يكمن في أن الوقائع البشرية الجديدة للإنسان العربي تمكنت من إنتاج تلك القوالب واللغة الجديدة بمعزل عن إملاءات النخبة. أي استيلاد لغة الحياة الحيّة مقابل اللغة البيانية المصقولة في مختبرات الأدب. أو هذا ما يفترضه الزمن التاريخي الجديد. الذي مارس نقل العلاقات الاجتماعية إلى مواضعات مغايرة. حيث بدأ المقدس يتقّوض ويتبدد في طيات العادي. كما تفككت رومانسية الوحدوي المتجانس لتذوب في شظايا التنوّع والتعدّد والاختلاف. تماماً كما صار الشمولي والمركزي يفقد قدرته على ضبط إيقاع الحياتي بوجه عام. وهو ما حتّم بحث القارئ والكاتب عن لغة ذات وظائفية مختلفة. أكثر فاعلية وملاءمة للحظة. وهذا هو ما يفسر ذلك الكم الهائل من كُتّاب الرواية. حيث لا ينتمي هذا الجيل الكتابي إلى سلالة أدبية. ولم يتأسس ضمن مدارات إبداعية بقدر ما استأنف الكتابة من منصة الحداثة الاجتماعية التي لا تخضع لمرجعية النص باشتراطاته الأدبية، وثقل قضاياه الموضوعية، إنما تتجاوب مع مقتضيات التعبير عن الذات والوجود الشخصي. ليس بالمعنى السِّيري، ولكن بما يحقق الحد الأدنى لمفهوم الفردانية من الوجهة السردية. أي الرغبة في استحضار الأنا داخل كُليات اللحظة المعاشة. بمعنى مجاورة سيرة الآخرين بمشتبهات سيرية لل (أنا) التي تحاول انتزاع نفسها من الهامش والتعبير عن وجودها في مدار التحولات. وهكذا يمكن النظر إلى جانب كبير من المنتجات الروائية المتدافعة بلا هوادة. فهي علامة على تاريخ اجتماعي تؤسسه وتصوغ ملامحه ذات تعيش حالة تبدّل مستمر. وهذا هو مبدأ الكتابة الروائية الجديدة التي انتبهت على ضرورة الحد من غلواء البطولة في الروايات القديمة وابتداع شخصيات على درجة من العادية. تمثل مطامح وهواجس وواقع الذات الكاتبة. وهذا هو ما يفسر أيضاً ضحالة الخيال في معظم المنتجات الروائية الحديثة، نتيجة اغترافها المباشر من الواقع. والتعامل مع المادة الخام للأحداث كمادة جاهزة وقابلة للاستدخال في النسيج الروائي. وذلك هو ما أضعه تحت عنوان سقوط لاهوت الرواية القديمة بكل أركانها وأدبياتها. * هناك مقولة مستطابة من أصحاب السرد بأن الرواية هي ديوان العرب لكنك ترى بأن هناك خللا فنيا ونفسيا في الروايات العربية الجديدة. فهي لا تشبه الإنسان الذي أنتجها. في رأيك ما هي أسباب هذه الغربة التي تتجلى في النص الروائي العربي؟ - هذه المقولة على الرغم من وجاهتها الفنية إلا أنها أسهمت في إرباك الفعل الروائي. تماماً كما دفعت مقولة (زمن الرواية) طوابير من الكُتّاب باتجاه كتابة الرواية بدون أدنى معرفة بتقاليد الكتابة الروائية. بمعنى أن الرواية العربية تعاني من ارتباك على مستوى المرجعيات السوسيولوجية. حيث يتأكد هذا المنحى من خلال كثافة الإنتاج في العالم العربي خلال العقدين الأخيرين. سواء على مستوى المنتج العام، أو ما يؤديه الراوئي كفرد. إذ يزدحم المشهد بمنتجات روائية يصعب الإلمام بها. حتى على المستوى الفردي. وهناك غزارة إنتاجية لا تسمح للروائي نفسه بمراكمة الخبرات أو حتى التفكير في رواية أكثر حداثة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. يدفعه ناحية ذلك الإنتاج الكمي، بريق الجوائز، التي صارت تشكل حافزاً سنوياً. ومجانية الحضور الإعلامي، حيث النجومية. بالإضافة إلى تراجع دور النقد، الذي لم يعد مرغوباً فيه، في ظل وجود قارئ جديد هو الذي يحدّد مقروئية الرواية وجدارتها بالحضور في السوق الجماهيري. وهو ما يعني أن مظاهر النشاط الروائي لا تشير إلى حركة أدبية ذات ملامح يمكن بموجبها استيلاد رواية حديثة بالمعنى الفني للكلمة. بقدر ما يزدحم المشهد بالمحاكاة والتنميط والإبقاء على الأدوات التقليدية القديمة لكتابة الرواية. فهناك جهل واضح بقوانين الحداثة وتقاليدها السردية. وقلة هم الذين حطموا بكتاباتهم الهياكل التقليدية للرواية. وذلك على المستوى الفردي، وليس ضمن جماعة أو تيار أدبي. وهو أمر يمكن استيعابه، نتيجة وجود قارئ قادر على تمكيث الأساليب المستهلكة. ودخول أعداد غفيرة من قراء الرواية في مطبخ كتابتها وإنتاجها، بدون أدنى خبرة فنية أو أدبية. * كيف ترى تأثير الجوائز المالية على منجز الرواية العربية؟ - يبدو أن أخطر منعطف تعبره الرواية العربية حالياً يتمثل في التلويح بالجوائز المالية الهائلة. التي صارت تهدد بالفعل الخطاب الروائي العربي وتبعد الروائيين عن قضاياهم المركزية. وعن مرجعية الإنسان. وإن كان هذا البعد لا يلغي منظومة من الأخطار التي أدت إلى تردي الرواية العربية سواء على مستوى المضامين أو الأداء الفني. إذ بات من الواضح وجود تراجع في أداء الروائيين. فالأحداث السياسية بعنوانها الكارثي لم تعد سوى مادة لتزييت الرواية وتحريكها في فضاءات معروضة إعلامياً. ومن يتأمل رواية من روايات الثمانينيات - مثلاً - بكل ما تختزنه من شوائب الأيدلوجيا، سيلاحظ الفرق في الثيمات والأداء السردي ومنسوب خبرة الكاتب الفنية والحياتية وتقنية البناء الروائي مقارنة باللغو الذي يتراكم في معظم روايات الحقبة الحالية. حيث تم انتهاك ميثاق القراءة ما بين الروائي والقارئ لصالح تسوية معلنة مع المؤسسة الثقافية. وهذا هو ما يستدعي طرح السؤال عن أهمية الحدث السياسي بمعناه الحضاري في مصب الرواية العربية. لأن الجدل المعرفي المطمور في البنى العميقة لروايات الجيل الثاني من الروائيين العرب هو ما جعل تلك الروايات تُراكم خبرات الخطاب الروائي. لأنها تخاطب قارئاً يعادل الذات العربية بكل طموحاتها وإخفاقاتها وارتباكاتها وهزائمها وشاعريتها. أما رواية اليوم فهي منذورة لمنصة إعلامية خالية من روح الثقافة النضالية بمعناها الواسع المتجاوز للحزبية والأيدلوجية، ولجائزة لها مواصفات استعراضية معروفة ومعرّفة. وهذا لا يعني وجود استثناءات لها مكانتها وإسهامها. * ترى بأن الروائية العربية فرطت في تقديم ذاتها المبدعة في كتابة الرواية وبحسب رؤيتك ان ما لمسته المرأة العربية في الرواية يفوق كل ما وجدته في كل وسائل التعبير عن كينونتها وذاتها وحضورها في كل الخطابات والأجناس الأدبية. هذا التفريط هل يعود إلى ضعف الموهبة أم أنها توهمت بأن الرواية هي الحاضن لكل خطاباتها الحقوقية في المجتمع؟ - بالفعل، فما لمسته المرأة العربية في الرواية يفوق كل ما وجدته في كل وسائل التعبير الأخرى. حيث تشكل الرواية بعداً جديداً في السياق الثقافي العربي الحديث. بما يختزنه هذا اللون الإبداعي من طاقة كبرى للتحرّر من صرامة الأشكال التعبيرية المعتادة. وبما يفتحه من فضاءات واسعة لعرض الحياة بكل اتساعها وتعقيداتها، وطرح الذات بكل هواجسها وخيباتها وحماقاتها وتطلعاتها. بمعنى أن الرواية صارت هي لسان المرأة العربية وممرها إلى العالم. وعلى هذا الأساس تطورت الرواية العربية النسائية. أي على إيقاع تنامي حركة التحرّر الاجتماعي. كما فرض عامل تحرير الكتابة إمكانية تغيير النظرة إلى المرأة. واستظهارها من عوالمها الداخلية المغلقة إلى وساعات العالم الخارجي وتعقيداته. كما يمكن ملاحظة تطور الرواية النسائية العربية بموازاة تطور الدوافع الذاتية والظروف الموضوعية. حيث اتخذت كل تلك التناميات أشكالاً ماثلة بوضوح في حضور الروائية العربية الكثيف بكل مظاهره. إلا أنها ما زالت تكتب وهي تتخيل أن أذن الرجل ملتصقة بجدار نصها الروائي. وهنا مكمن التفريط. فهي مسكونة بفكرة أن سوء الفهم القائم بينهما يمكن للرواية أن تذيب بعض عوالقه. أو أنها يمكن أن تزحزحه من تموضعاته الذكورية التي يتأملها من خلالها. فيما يبدو أنها - أي الروائية العربية - قد جابت كل المدارات الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية لتؤكد أحقيتها. وعلى هذا الأساس ظهرت موجات من الكتابة الروائية النسائية في العقد الأخير تفوق ما أنتجته المرأة في كل تاريخها. كما حدث في السعودية والخليج مثلاً. حيث تم نسف تلك المنظومة الصلبة من المحرمات القبائلية والعشائرية المضغوطة داخل نظام اجتماعي صارم. لدرجة أن الدراسات تركزت حول هذه الهبّة. وصار النقد الروائي يحاول افتكاك صورة الرجل في الروايات النسائية أو يتقصى طبيعة الصوت الذي تتكلم به المرأة في رواياتها. وإلى الحد الذي صارت فيه الروائية العربية تنافس الروائي العربي على الجوائز الأدبية المرصودة للرواية. وهنا يصعب الحديث عن المدّ الروائي النسائي العربي بمعزل عن نمو الخطابات الفكرية بمختلف اتجاهاتها. التي تتوازى كلها في مصب الحداثة الاجتماعية. إذ لا يمكن الحديث عن إنجاز روائي نسائي في منتصف القرن التاسع عشر بدون استدعاء المظلة فكرية لذلك الحراك. حيث تبدو الرواية النسائية العربية من هذا المنظور وكأنها انعكاس لمجمل الصراعات الدائرة على كافة المستويات. * يوسف زيدان حقق بروايته الرائعة عزازيل جائزة البوكر ولكن روايته محال لم تترشح للقائمة الطويلة في الدورة التي تليها وكذلك رواية عبده خال لوعة الغاوية لم تترشح وهو الفائز بالجائزة وايضا سعود السنعوسي يكتب رواية رائعة ساق البامبو ثم ينحدر فنيا في فئران امي حصة. كيف تفسر هذا التباين الفني الحاد في تجارب هؤلاء الروائيين؟ - سؤالك يتضمن يقيناً باستنتاج قد لا يتفق معك فيه آخرون، إلا أن الوقائع الثقافية لما ذكرت تبدو على درجة من الوضوح. إذ لا مجال لمقارنة جديد هؤلاء بقديمهم سواء على مستوى المقروئية أو النقد. والسبب الجوهري، كما أتصوره، يكمن في إصرارهم على الحضور روائياً لتأكيد نجوميتهم. والتعامل مع الفعل الروائي من خلال وصفة أو خلطة كتابية جاهزة. حيث كتبوا رواياتهم اللاحقة بدون شغف مقارنة بما كتبوه سابقاً. ولذلك خلت رواياتهم الجديدة من الحبكات. نعم، الحبكة التي تهيكل الرواية وتختزن روحها ومنظومتها الفكرية. وهذا الاستهلال لا يقتصر على من ذكرت من الروائيين، بل هي لعنة تكاد تصيب معظم الذين حصدوا الجوائز. حيث تتوارى الذوات المتنسّكة للإبداع، لتحل محلها ذوات تمارس الكتابة الإبداعية على هامش الحياة بكل همومها وانشغالاتها. وكأن الرواية يمكن أن تُكتب للتسلية أو الحضور الشرفي في المشهدين الثقافي والحياتي. حيث تمر الرواية العربية اليوم بمرحلة من مراحل التيه والارتباك. فمن سجل حضوراً مقنعاً في بداياته استسهل الأمر وصار يستولد الروايات بكثافة ولا مبالاة ما دامت تلاقي بعض القبول الإعلامي. وبموجب هذا التردي تضاءل حضور الذوات الروائية التي تخاطب التاريخ من خلال أعمال روائية قابلة للخلود في الذاكرة. والتأثير في طرائق تفكير وممارسات الفرد والمجتمع. بمعنى أن الرواية التي تقترح منحى جمالياً للإحساس بالذات والهوية والتراث والقضايا المعاشة لم تعد هاجس الروائي المهجوس باللهاث وراء المزيد من النجومية والجوائز. كما أن تأريخ الوجدان الجمعي الذي يعادل الخطاب الروائي لم يعد من أولوياته ولا من ركائز وعيه الروائي. مقابل ما يستنسخه من النماذج الجاهزة التي يعيد إنتاجها وحقنها ببعض الإثارة المفتعلة. وهذا ما يبشر به طابور طويل من الروائيين الذين يعملون لتخفيض أفق التوقع القرائي. كما يعودون بالرواية إلى قالبها المدرسي، ويسدون الطريق على النقد سواء بتواضع ما ينشرونه من روايات أو باكتفائهم المعلن عن أي مناقدة لا تعمل كرافعة لهم. * في مشهدنا الروائي يتهم الناقد بأنه لم يعد يهتم بالرواية السعودية والناقد يرى بأن الرواية أصبحت المنجز الذي لا يستحق الجهد النقدي. كيف تقرأ هذه التهم المتبادلة بين الروائي والناقد؟ - سؤال يجاب عليه بسؤال في ذات الإطار. فهل يهتم الروائي في السعودية بما يقال عنه من قبل النقاد والقراء!؟ لا أظن ذلك فنحن أمام مفرخة لإنتاج مشتبهات روائية باستثناءات قليلة جداً. ولو تأملنا المشهد خلال السنوات الماضية فلن نتعثر بأي رواية سجلت ذلك الحضور الجماهيري. أو حققت النصاب الأدبي كمعيار للحداثة الاجتماعية. حيث يُكتفى بخبر عنها في الصحف وتمر مرور الكرام في مستودع الروايات العادية. إذ لا توجد تلك الرواية التي يختلف عليها وبها المشهد الثقافي. حتى من قبل الأسماء الروائية ذات الصيت والمكانة. الذين صاروا يكتبون رواية عادية جداً فيما يشبه الولادات الآلية الموسمية. بمعنى أن الرواية في السعودية صارت تشبه البنية المتولدة فيها بكل ما تختزنه من سكونية ورهابات ومجانية، وتسترفد منها طاقتها الموضوعية. فهي لا تتحرك بموجب ارتقاءات أدبية بقدر ما تخضع لثقافة تبريرية هي بمثابة القيمة المهيمنة. ولذلك يغلب عليها التمادي الشكلاني في تقليد الآخر. وإذا ما احتكمنا إلى معيارية الجوائز كجائزة البوكر مثلاً. سنجد أن منجزنا الروائي خارج المنافسة بشكل فاضح. وإذ لم يلتفتوا إلى ما كُتب لحظة الانبعاث الروائي من كتابات نقدية تلاحظ المنجز في طور انفجاره، فلن يلتفتوا اليوم لما قد يُكتب عنهم. لأنهم يحتاجون إلى النقد الذي يعمل كرافعة لمنتجاتهم وليس النقد بمعناه المعرفي والفني. وأعتقد أن حفلة الاحتفاء بالمنجز الروائي في السعودية انتهت على كل المستويات القرائية والنقدية والإعلامية. ولم يعد بإمكان أي روائي أن يحرك هذا الركود إلا برواية نوعية. وهو أمر نترقبه من بعض الروائيين الذين نتأمل منهم الإبداع. ولذلك نتابع كل ما ينشر من هذا المنطلق، حتى وإن لم نعلق عليه. لأن عدم الكتابة عن معظم ما ينتج هو بمثابة موقف نقدي. فالنقد لا يتحرك إلا بموازاة نص فيه روح المغامرة والتجريب والجدية يختزن أشواق الإنسان. نص روائي يستفز أدوات الناقد ومنهجيته وذائقته. أما الكتابة النقدية عن المنتجات الروائية الرديئة فهو ضرب من العبث والعودة بالخطاب النقدي إلى الوراء. وهنا يمكن القول إن الروائيين لم يخيبوا النقاد وحسب، بل أصابوا القراء بالإحباط إذ لم يعد في أفق التوقع ما يعد برواية ذات بناء فني يحرض على القراءة. بمعنى أن الروائيين أخلوا بميثاقهم مع القارئ ولا يمكن للناقد هنا أن يكون وسيطاً لترويج الرداءة تحت عنوان النقد.