كمال الرياحي-تونس في ظل عدم وجود ناشرين مغامرين بتقديم تجارب أدبية غير معروفة للمكتبة العربية تحول بعض الأدباء الغربيين إلى أصنام عند القارئ العربي، وبقي الناشرون العرب رهينة لها، وهكذا لم يتوقفوا عن ترجمة أعمال غابريل غارثيا وغريمه البيروفي ماريو فارغاس يوسا، وذلك على الرغم من أن الواقعية السحرية باتت مثل الفلكلور في أميركا اللاتينية، وسخر منها عدد غير قليل من الكتاب كالشيلي روبارتو بولانيو. غير أن هذا التوصيف للناشر العربي لا يمكن أن يحجب عنا حركة بعض المنشقين الذين يغامرون بتقديم الجديد المجهول عربيا، وتمثل دار مسكيلياني واحدة من هذه الدور التي راوحت بين تقديم عيون الأدب الغربي وتقديم الجديد الحي. رواية السنة المفقودة للأرجنتيني بيدرو ميرال بترجمة أشرف القرقني الصادرة مؤخرا، واحدة من المغامرات التي تقدم تجربة روائية تقطع مع ثوابت الواقعية السحرية. الفن والصمت تنتزع هذه الرواية صخبها من الصمت الذي يلف عالمها، فقد اختار صاحبها أن تدور حول لوحة هادرة لرسام غريب يدعى سالفتييرا، اختار أن يمارس أقصى طقوس الصمت عندما وهب حياته لرسم لوحة فريدة تنهض معارضة لتاريخ الفن بشساعتها غير المفهومة وانسحاب رسامها منها من خلال إحجامه عن وضع توقيعه، بل ورفضه الظهور أو التصريح بشيء للإعلام. يروي الحكايةَ ابن الرسام الذي كشف أن والده توقف عن الكلام منذ التاسعة من عمره إثر حادث مروّع أثناء ركوب الخيل، حيث سقط سالفتييرا وظلت قدمه عالقة بركاب سرج الحصان الجامح الذي هرب إلى المجهول لتجده أسرة وتعالجه من جراحه، لكنه ظل صامتا، فقدمت له ألوانا مائية ليبدأ منذ ذلك الحين علاقة أبدية مع الرسم. هكذا يبدو الصمت الغامض قدر هذا الرجل الذي استعاض عن اللسان بالريشة، وعوّض وجوده الصائت بوجود استعاري يبدو صامتا، لكنه صاخب بالأسئلة التي ظل يثيرها ذلك الوجود المختلف. فالابن الراوي يكشف كل مرة عن جزئية من ميراث الأخرس؛ الرسام الصامت الذي رحل وترك ستين لفافة من القماش قضى حياته وهو يرسمها في عزلته بعيدا عن الأضواء والأصوات. سيرة الرسام يكتب ميرال سيرة الرسام سالفتييرا من خلال استطرادات على هامش اللوحة الممتدة عبر الرواية، التي تمثل عملية التعرف عليها كل الحبكة الروائية، والتي ينسجها الروائي بحرفية عالية عبر لعبة الوعد والتأجيل، حيث تطل أطراف اللوحة كل مرة ويلتهمها الصمت من جديد كراقصة محترفة في ألعاب الغواية. وتبدو فكرة المحو البطل الحقيقي في الرواية؛ فما وُجد الرسام الأخرس إلا ليمحو أستاذه الرسام الألماني هربرت هولت الذي أجبر بسبب تفوق تلميذه إلى ترك الأرجنتين متعللا بالانقلاب العسكري الذي عرفته البلاد عام 1930، وترك عتاده الفني غنيمة للرسام العشريني. لقد تعامل الرسام مع إنتاجه الفني كحالة من الكتابة الذاتية واليوميات الحميمة، لذلك كان لا يهتم بعرضها للعلن، ربما لأنه كان أبكم، فإنّه كان يحتاج إلى سرد قصته الخاصة على نفسه، ورواية تجربته الذاتية في جدارية لا تنتهي أبدا. لقد كان سعيدا برسم حياته، ولم تكن لديه أي حاجة إلى عرضها، فبالنسبة إليه أن يحيا حياته يعني ببساطة أن يرسمها. إن الإحالة هنا واضحة على سيرة غابريال غارثيا ماركيز عشت لأروي، غير أن شساعة اللوحة اللامتناهية تستدعي من جديدة فكرة المحو، فاللامتناهي في الكبر لا يُرى لأنه أكبر من احتمال العين. وباستحضار تلك الإشارة إلى الانقلاب العسكري دون التوقف عنده، يؤكد بيدرو ميرال معارضته للرواية الأميركية اللاتينية التي أُثقلت بتكرار تيمة الديكتاتور من أستورياس إلى ماركيز مرورا بكارلس فوينتس فيكثف ذلك في مشهد من لوحته يجسد قتالا بين رجال في أزياء موحدة بالحراب والسيوف. رمز الحكمة كل هذا العمق الذي يظهر في سيرة الرسام البالع لسانه كرمز للحكمة يرويه الابن أحد الورثة المتكالبين الذين يبحثون عن طريقة للاستفادة من ذلك الميراث اللوني، فلم يروا من عمق اللوحة إلا طولها الذي نبّههم إلى صرعة كتاب غينيس. هكذا يدفع ميرال بالرواية نحو منطقة أخرى أكثر خطورة ترثي الفن في زمن الحداثة المتصدعة، تلك الحداثة التي تسعى، في وجه من وجوهها، إلى تسطيح كل عميق للاستحواذ عليه عبر سياسة الكتشنة. فبضياع اللفافة الستين تبقى اللوحة ناقصة نقصانا عمدت الرواية إلى مدحه؛ مديح الفراغ والبياض لتؤسس السنة المفقودة لكوجيطو جديد ووجود مشروط بالاختفاء والتلف يتأكد مع احتراق اللفافات بالكامل فنخرج من شرط الوجود بالصمت وعدم التمظهر، أنا لا أبدو موجودا، إذا أنا موجود إلى أنا اختفيت إذا أنا موجود. فالظهور، صوتا أو حسا، في فكر ميرال هو اليقين واليقين عدم؛ فكرة فلسفية ما بعد حداثية يقلّبها الروائي الأرجنتيني عبر سرد حكاية لوحة تعلن فداحة الوجود الإنساني بوصفه أكبر من واقعة لترفعه إلى مستوى خط الانفلات والصيرورة السائلة مثل نهر يجري مثقلا بالكائنات والحكايات والمصائر لا نقبض منه سوى نسخ مزورة للوجود. إن قيمة هذا العمل الإبداعي ليست في انشغاله بعالم الرسم، على غرار روائيين كثر من روسيا وألمانيا والأرجنتين، إنما في قدرة الكاتب علي إيصال ذلك العالم المخصوص لهذا الفنان الاستثنائي المتوحد مع ذاته وفنه عبر تلك الوحدات السردية القصيرة التي تنهض كل وحدة منها قصيدةَ نثر عالية التكثيف، تعلن عن رواية اجترحت تشويقها الخاص بعيدا عن كل البهارات الروائية المستعادة لتظل كلما قرئت تحرج المنجز الروائي العالمي بأصالتها.